الحمد لله وحده الصلاة السلام على من لا نبي بعده، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونفع الأمة وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، أما بعد.
فإن الله افترض على المسلمين حج بيته الحرام لمن يملك القدرة على ذلك، ومن يتيسر له الحج، مرة واحدة في العمر، وجعل ركن الحج من أركان الإسلام، وركن الشيء ما لا يقوم الشيء إلا به ولا يكتمل إلا في وجوده، ومن رحمته بنا تيسيره علينا أن جعل فريضة الحج مشروطة بالاستطاعة، وجعلها مرة واحدة في العمر.
وقد وردت أثار كثيرة في الأمر بالحج وبيان منزلته في الإسلام سواءا في القرآن الكريم أو السنة النبوية، وسنتناولها في هذا المقال مبينين منافع الحج وبركاته، وكيف يجدد إيمان المسلم؟
الحج في الكتاب والسنة
أمر الله بالحج في أكثر من موضع في القرن الكريم، ومن ذلك : (“وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ،وقوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)).
ومن الأحاديث الدالة على مشروعية الحج ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضَل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)، وفي رواية عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نَرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: (لا، لكُنَّ أفضلُ الجهاد: حجٌّ مَبرور)؛ رواه البخاري.
فضل الحج وأهميته للمسلم
إن عبادة الحج من أفضل العبادات التي يتقرب بها العبد لله عز وجل، وقد وصفه النبي بالجهاد، وورد كلام كثير في فضل الحج وأجره العظيم عند الله، ولكن قبل أن نتكلم عن فضل الحج وأثاره على المسلم، وثماره الطيبة، فثمة سؤال يطرح نفسه، وهو لماذا تحتل عبادة الحج تلك المكانة العظيمة؟ ومن أين تستمد خصوصيتها وتستوجب هذا الثواب العظيم الذي وعد الله به عباده؟
إن خصوصية الحج ومكانته المتميزة بين بقية العبادات ترجع لما ينطوي عليه من معاني جليلة ومقاصد نبيلة، فالحج ينطوي على معنى الإخلاص لله، والاستجابة لندائه، والتخلي عن ملذات الحياة ومتعها والإقبال على الله وحده، برغم ما في تلك العبادة من مشقة ومعاناة كبيرة، كمشقة السفر ونفقات الحج وأداء المناسك، ولكن المسلم يتجه إلى الله ملبيا دعوته، راغبا فيما عنده من خيري الدنيا والأخرة، حريصا على مرضاته.
أما عن فضل الحج بل فضائل الحج فهي أكثر من أن تعد، فقد وعد الله عباده بثواب جزيل وعطاء لا ينقطع، ومما يدل على ذلك قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (العُمرة إلى العُمرة كفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)، وفي هذا الحديث إشارة جلية إلى أن جزاء الحج الجنة، وما أعظمه من جزاء، غير أن الحديث جعل هذا الجزاء العظيم عن الحج المبرور، أي الحج الصحيح المقبول، والذي يترك أثرا على الإنسان ويغير سلوكه إلى الأفضل.
ومن فضله، أنه جهاد في سبيل الله، وقد عبر النبي عن الحج والعمرة بكلمة جهاد، نظرا لما ينطويا عليه من المشقة والتعب ومخالفة الهوى، والتجرد من حب الدنيا والإقبال على الله بالخشوع والطاعة، ومن ذلك حديث عائشة –رضي الله عنها- السابق ذكره.
من فضائل الحج أنه يعطي المسلم فرصة لتحقيق أقصى درجات الروحانية والعبودية المطلقة، ويبتعد عن صخب الحياة وملذاتها ومشاكلها، فهو يترك أهله وموطنه ويرحل إلى الله متخففا من كل أثقال الحياة التي انهكته، ومتجها إلى الله بكامل عقله وقلبه.
الحج بداية جديدة للمسلم مع ربه، فالله يغفر للحاج ما سبق من الذنوب فيعود نقيا طاهرا كما ولدته أمه، وهذا من أعظم منافعه، فقد قال المصطفى –صلى الله عليه وسلم : (من أتى هذا البيت، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدتْه أمُّه) كما يقول –صلى الله عليه وسلم-: ( الحج يهدم ما قبله).
كما أن من أفضل أيام الله هو يوم عرفة الذي يغفر الله فيه الذنوب ويقبل التوبة ويستجيب لعباده الداعين السائلين من فضله، وفي ذلك ما ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن يوم أكثر مِن أن يعتق الله فيه عبدًا مِن النار مِن يوم عرفة، وإنه ليَدنو، ثم يباهي بهم الملائكة).