كل الأفعال التي سطرها التاريخ وزين بها تاج إنجاز الشعوب التي كتبته كانت وبكل تأكيد أفعالا أصلية نابعة من فكر وتفكير بعيدا عن العواطف المتذبذبة. كذلك كانت المدارس الفكرية التي أنتجت لنا الأنظمة السياسية والأنماط الحياتية التي بناء عليها صنعت الشعوب مجدها وحضارتها لم تكن يوما مجرد رد فعل عكسي لأي فعل آخر أو تقليد، بل كانت ذاتية النشأة تصدر الضوء وتنشره ولا تعكسه نهائيا.
تلك المقدمة تأخذني إلى التفكر فيما يسمى التيارات الفكرية لدينا في المنطقة ومحاولة فهم ظروف نشوئها وتطورها وقياس إنجازاتها، ومهما حاولت أجدني دائما ما أصطدم بحقيقتين محبطتين تنزعان مني أي أمل في نجاح تلك التيارات في طبع بصمة إيجابية على كتب تاريخ الأجيال القادمة.
- الحقيقة الأولى هي أن بعض الحركات لم تكن إلا حركة مضادة لحركة ما تستقي نسقها من عكس أفكار الأخرى وتضع قيمها بناء على الاختلاف مع تلك الحركة. والعيب هنا أن ذلك النوع من الحركات يهمل العنصر البناء والإبداعي في رسم مساره مما يجعله يفشل في أول اختبار حقيقي لفاعليته.
- الحقيقة الثانية، أن البعض الآخر من تلك الحركات هو مجرد محاولة محاكاة لحركة أخرى من وقت أو مكان آخرين يهمل بشكل أو بآخر ظروف الزمان والمكان المعاصرة، بل في بعض الأحيان يهمل حتى طبيعة المجتمع وتاريخه وقيمه في سبيل فرض تلك الحركة التي يريد أتباعها فرضها من باب إعجاب شخصي بحت بتلك التجربة ومحاولة عيشها كما سمعوا عنها. إضافة إلى أن كلا النوعين هما مجرد أدوات للسيطرة على الشعوب.
نحن نقبع حرفيا في أعقاب التطور الفكري العالمي عندما فشلنا في تقديم حركة فكرية واحدة صالحة لاحتواء البشرية كافة، تنشأ وتترعرع بناء على قدرتها الذاتية على التطور وتتبع حاجات البشر لتشملها وتضمن لهم حياة رغيدة وتطور مستمر. لذلك تجد تياراتنا الفكرية في حالة صدام شخصي لا فكري تسجل انتصاراته لمنظريه والخاسر الأوحد دوما ما يكون المجتمع. وإلى أن نصبح أفعالا عوضا عن ردود أفعال، دعوني أقتبس كما نفعل دائما عن مارفين ميلفيل قوله «من أن تفشل في الأصالة، أفضل من أن تنجح في التقليد».
بقلم: محمد السرار
وهنا تقرأ: كلمة عن جروح الأمة العربية