يعرف الدين الإسلامي بتمامه وكماله وشموله، فقد استوفت الشريعة الإسلامية أوجه الكمال التشريعي فلم تترك جانبا من جوانب الحياة وقضاياها إلا تناولته وبينت أحكامه وملابساته، ومن رحمة الله أنه لم يترك للبشر السلطة في تحديد تلك الأحكام أو صياغتها وإلا لتقاتلوا انتصارا لأهوائهم وتقديراتهم ورغباتهم الشخصية.
ولأن الله عز وجل يعلم أن تطبيق أي فضيلة من الفضائل والامتناع عن أي رزيلة والقضاء عليها في أي وسط من الأوساط أو في أي مجتمع يتطلب التزاما من كافة الأطراف التي تمسها هذه الفضيلة، وتكاملا في الأدوار حتى يتحقق الغرض المنشود من نشر الفضيلة ودحر الرزيلة، وهنا سنوضح بالأمثلة مفهوم التكامل بين أحكام الشريعة وأثره في الوصول إلى مجتمعات سوية أخلاقيا ودينيا لا عوج فيها ولا سقم.
مهمتنا امتثال الأحكام وليس إنشاء أحكام جديدة
قلنا آنفا أن من فضل الله علينا أن أعفانا من مهمة إنشاء أحكام شرعية تحكم حياتنا وترسم ملامح علاقتنا بالله وعلاقتنا بالناس، ومن ثم يقول عز وجل في محكم التنزيل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فقد بين لنا كل تفصيلة تتعلق بأمور حياتنا، ولم يتركها لاجتهاداتنا القاصرة، وأسند إلينا مهمة الالتزام فقط، ومن كمال نعمه أنه عندما يعالج قضية من قضايا الدين التي يدخل فيها عدد من الأطراف فإنه يكلف كل طرف بما عليه من واجبات، لأنه لو التزم كل طرف بما عليه لخف العبء وتضاءلت المشقة وتحقق الهدف المنشود. وفي أدناه أنماط من الأحكام التي بنيت على التكامل.
قضية العفة
الإسلام يحرص على أن تكون الأمة رمزا للعفة والطهارة، ومن ثم وضع لها عدد من الأحكام التي تصل بها إلى هذا المستوى، فقد طالب المرأة بالتزام الستر في لباسها وقولها وفعلها، أمرها بتحصين نفسها وعدم الاختلاط بالرجال والامتناع عن كل مظاهر الترج الباعثة على الفتن والغراء، وألقى الجزء الأخر من المسئولية عن عفة المجتمعات على طرف القضية الأخر وهو الرجل فأمره بغض البصر عن المفاتن وتقوى الله في سره وعلانيته، وأمره أن يعف نفسه عن الحرام باتخاذ زوجة صالحة تعينه على أمر دينه فإن تعذر ذلك فليستعفف قال تعالى: ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ )، وأمر الآباء والأمهات بغرس وازع العفة عند البنين والبنات والرقابة عليهم ومتابعة سلوكهم، وتيسير تكاليف الزواج وعدم التعنت في شروطه ليتمكن الشباب من سد باب الفتن في ذلك يقول عز وجل: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (32) ، وأمر ولي الأمر أو الحاكم أو من يقوم مقامه بسن العقوبات الرادعة واليقظة في تتبع مواطن الرزيلة والتعامل معها بحزم وقوة.
فهنا أربعة أطراف لتلك القضية لم يعف الإسلام أي طرف منها من واجبه تجاه عفة المجتمع ونشر الفضيلة.
قضية بر الوالدين
كلنا يعلم أهمية بر الوالدين وفضله ومنزلته بين أحكام الشريعة الإسلامية، وطرفي القضية هنا الآباء والأمهات والأبناء، فطالب الإسلام الأمهات والآباء أولا ببر آبائهم حتى يبرهم أبناؤهم، ثم طالبهم بالإحسان الى الأبناء وتربيتهم على منهاج الشريعة الغراء وتعليمهم الحلال من الحرام وتعليمهم خشية الله وتوقيره في نفوسهم، وإعانتهم على برهم بعدم التعنت أو الشطط في التضييق على الأبناء انطلاقا من حقهم في بر هؤلاء الأبناء، كل هذا أمر به الآباء كزرع طيب ينبغي أن يزرع حتى يعقل معه توقع الثمر الطيب، ثم طالب الأبناء بالبر وبين لهم فضله ومكانته وحثهم عليه أيما حث!
قضية التعامل بين الناس
المجتمع الإسلامي مجتمع متضافر متشابك، ولا يمكن أن تفرض عليه العزلة أو الوحدة، ومن ثم سنت الشريعة قوانين التعامل، فأمرت الصغير باحترام الكبير وتوقيره، وعدم التجاوز معه بقول أو فعل، وأمرت الكبير برحمة الصغير والإحسان إليه، واستيعاب طيشه وقلة خبرته.
التعامل بين الفقراء والأغنياء
لا يخل مجتمع من وجود الفئتين، فئة ابتليت بالحرمان وقلة ذات اليد وفئة ابتليت بالغنى والرفاهية والسعة ، فوضعت الشريعة ضوابط للتعامل بينهم وحثت على قيم التكافل والمشاركة بما يعف المجتمع ويسد حاجاته ويضمن له البعد عن سلوك طرق الرزق المحرم، وذلك من خلال شقين متكاملين.
الشق الأول: أمر الفقير بالتعفف وعدم التسول أو التذلل للحصول على المال، وأوصاه بالصبر والرضا عن حاله والقناعة بما في يده،(لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).
الشق الثاني: أمر الأغنياء بأداء الحقوق التي افترضت عليهم في أموالهم، وبصدقة التطوع والإحسان الى الفقراء وإعطائهم من فضل الله، حتى يحصلون البركة لأموالهم وأولادهم ويأمنوا آفات الحقد والحسد، يقول تعالي: (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ)، وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(272).