إن التطور من أكثر المفاهيم التي يُساء فهمها بل وأكثرها إثارة للجدل فيما يتعلق بالثقافة الشعبية.
عند سماع كلمة تطور خلال الحياة اليومية ربما يخطر ببالكم أن أمراً ما يتغير؛ أي أنها فكرة تتعلق بالتغير والتحول.
هناك العديد من المفاهيم الخاطئة حول التطور، فهو لا يعني تحول كائن إلى كائن آخر بعد تغيرات متراكمة عبر الزمن، ولا يعني أن الحمض النووي لأحد يتغير بناءً على طريقة عيشه مع أن ذلك اعتقاد شائع جداً. لكن ليس هذا هو المقصود بالتطور.
الانتخاب الطبيعي
إن المصطلح الأوضح والمرادف للتطور هو الانتخاب الطبيعي، أو قد يسميه البعض الاصطفاء أو الانتقاء الطبيعي؛ وهو يعني أي نوع من الكائنات الحية قد يشمل تنوعاً بمعنى اختلافاً وراثياً.
على سبيل المثال؛ عندما تنظرون إلى الأطفال في المدرسة تجدون تنوعاً بعضهم طويل وبعضهم قصير، بعضهم لديه شعر أشقر وبعضه الآخر لديه شعر لون أسود وهكذا هناك دائماً بعض التنوع.
والانتخاب الطبيعي هي العملية التي تتأثر بالعوامل البيئية لاختيار شكل محدد من هذا التنوع.
أمثلة على الانتخاب الطبيعي والتطور
إذ أن بعض أشكال التنوع ضرورية جداً، وبعضها الآخر غير ضروري على الإطلاق.
تطور حشرة العث المفلفل
على سبيل المثال بعض حشرات العث المفلفل، والتي تضم تنوعا يتمثل بأن بعضها يغلب عليه اللون الفاتح أو تكون شبه منقطة بالأبيض، وبعضها يميل إلى اللون الأغمق وتقل النقاط البيضاء قليلاً. أما البقية منها بالكاد يوجد عليها بعض النقاط البيضاء وتميل إلى اللون الأسود.
فهذا تنوع طبيعي واختلاف وراثي ضمن النوع الواحد من المخلوقات.
وقد تلاحظون في أنواع الحيوانات الأخرى الكثير من التنوع المرتبط بالألوان. لم تكن هذه السمة في العث المفلفل ذات أهمية مسبقاً، لكن بعد الثورة الصناعية في بريطانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر، وزيادة انتشار سواد الدخان الناتج عن المصانع المعتمدة على محركات الفحم والمتزايدة في ذلك الوقت تلطخت جذوع الأشجار باللون الأسود. ربما كانت بعض جذوع الأشجار تشبه هذا الشكل ما يُناسب حياة الحشرة في ذلك الوقت.
لكن مع الثورة الصناعية كل الأشجار أصبحت سوداء بسبب الدخان الناتج عن حرق الفحم؛ أي أنها أصبحت أغمق من ذي.
بالتالي؛ قبل حدث تغير مفاجئ وكبير في بيئة العث المفلفل ما يؤثر على بقائها.
إن أبرز التأثيرات لهذا التغيير هو قدرة الطيور على تمييز حشرات العث المفلفل الفاتحة على الأشجار. إذ أن بيئتها أصبحت أغمق من ذي قبل، وبالتالي؛ يسهل تمييز الحشرات ذات اللون الفاتح على عكس الحشرات ذات اللون الغامق إذا أن لونها يُطابق لون الخلفية التي تقف عليها فيصعب تمييزها.
وبالطبع ذلك لا يعني أن الطيور لن تصطاد هذه الحشرات الغامقة بل ستصطادها مهما كان لونها. لكن نسبة اصطياد الحشرات الفاتحة ستكون أكثر بكثير.
بالتالي؛ اصطياد الحشرات الفاتحة خاصة في الفترة ما قبل أو خلال تكاثرها يزيد نسبة تكاثر الحشرات الغامقة ما يؤدي إلى زيادة أعدادها مقارنة بالأنواع الأخرى.
قد يبدوا الأمر وكأن هذه الحشرات ذكية، فبعد تغيير البيئة المحيطة بها إلى الأسود تتكاثر لجيلين أو أكثر لتُصبح جميعها سوداء. كأنها قررت التطور لتصبح سوداء من أجل الاختباء من الطيور بسهولة أكثر لكن ذلك ليس صحيحاً.
هناك أوجه عديدة للتنوع ضمن أفراد العث المفلفل والحقيقة هي أنه عند تحول البيئة لتصبح أغمق وأغمق كانت هذه الفئة الفاتحة من العث أقل نجاحاً في التكاثر بسبب اصطيادها قبل تكاثرها أو ربما خلاله. بالتالي؛ لن تتمكن من إنتاج أفراد وسلالات بالقدر الكافي.
بينما كانت فرص تكاثر هذا النوع أكثر، وبالتالي؛ تصبح سمته هي الطاغية إلى أن تصبح جميع حشرات العث المفلفل سوداء. هذا أحد الأمثلة على الانتخاب الطبيعي.
فيروس الإنفلونزا
هو مثال آخر على الانتخاب الطبيعي؛ تتميز الفيروسات بصعوبة تحديدها من ضمن الكائنات الحية؛ فهي مثل وعاء صغير للحمض النووي DNA وفي بعض الأحيان الحمض النووي RNA اللذين يمثلان المعلومات الوراثية للكائن الحي.
أي أنها تحمل هذه الأحماض النووية في أشكال هندسية على هذا النحو فقط. لا تشبه أيه من الكائنات الحية العادية الأخرى التي تتحرك وتجري داخلها عمليات الأيض وكل ذلك بل فقط تحمل هذا الحمض النووي وتغرسهُ في شيء آخر قادر على إجراء العمليات الحيوية ثم تستخدم هذا الحمض النووي للتكاثر وإنتاج المزيد من الفيروسات.
إن الإنفلونزا ناتجة عن فيروس معين إذ في كل عام يصاب الشخص بنوع محدد من الفيروسات، والذي له شكل معين من التنوع أو أحد أشكال الاختلافات الوراثية بين أفراد نوعه.
إذا أصيب الإنسان بفيروس الإنفلونزا فإن جهاز المناعة يبدأ بتمييز هذا الفيروس شيئاً فشيئاً ثم يهاجمه قبل التسبب بضرر أكبر. ثم يقوم بالقضاء عليها قبل أن تضرب بجسم الإنسان.
من جانب آخر يتمثل الانتخاب الطبيعي بقوة في هذه الفيروسات إذ بمجرد تعرف جهاز المناعة على أحد أشكالها فإنه سيهاجم هذا الشكل المحدد بالذات ويقضي عليه.
لكن فيروس الإنفلونزا يتغير باستمرار؛ فكل شكل أو نواة من فيروس الإنفلونزا يتميز بتغير أو اختلاف بسيط.
على سبيل المثال؛ النوع الرئيس والأكثر هو الذي يحتوي على نقطتين، لكن ربما هناك أنواع أخرى منها يحمل نقطة واحدة ومنها يحمل ثلاثة نقاط وقد تكون هذه ناتجه عن طفرة عشوائية؛ أي تظهر بشكل عشوائي ولا تمثل سوى مع ما نسبته واحد على مليون من هذه الفيروسات.
حالما يتعرف جهاز المناعة على الفيروس ذي النقطتين تعيين ويستمر بمهاجمته تسنح الفرصة لهذا الفيروس ذي النقطة الواحدة بإصابة الأشخاص، ويكون حمضهم النووي DNA متاح له ما يجعله أكثر نجاحاً.
لذلك في موسم الإنفلونزا القادم سيكون هذا النوع هو فيروس الإنفلونزا الجديد.
العملية التي ينتج عنها وجود فيروس إنفلونزا جديد في كل عام هي شكل من أشكال التطور أو الأصح من أشكال الانتخاب الطبيعي الآن. إذ ليس بالضرورة أن تحدث فقط عبر عصور من الزمن مع أنها تمثل أغلب المشاهدات التي ترونها في الحياة وما حولكم.
واقرأ أيضًا عن الانقسام المتساوي – نظرة علمية فاحصة على مراحل تطوره.. ومعلومات أخرى
البكتيريا
مثال آخر يظهر عندما تفكرون بالمضادات الحيوية ألا وهو البكتيريا، فالبكتيريا هي خلايا حية تتحرك وتجري عمليات أيض وغيرها.
وعند الحديث عن العدوى فذلك غالباً يعني إما عدوي فيروسية أي هذه الفيروسات التي تصيب الحمض النووي DNA وتستخدم الخلية من أجل تكاثرها، أو أن تكون عدوى بكتيرية حيث هذه الخلايا التي تتحرك وتطلق مواد سامة تسبب المرض للجسم وغيره.
يتم القضاء على البكتيريا بالمضادات الحيوية؛ فهي تهاجم البكتيريا وتقتلها، وربما تسمعون بها كثيراً عند زيارتكم للطبيب أو طلب أحد المرضى تناولها للعلاج.
لكن يرفض بعض الأطباء وصف المضادات للمرضى اعتباطاً لأن الإفراط في تناول المضادات الحيوية يؤدي إلى ظهور أنواع وأشكال جديدة من البكتيريا.
إذ في هذه الحال يساعد الانتخابات الطبيعي على تكاثر بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.
لنفترض أن هذه هي كل أنواع البكتيريا التي في الحقيقة لا حصر لها، وبين الحين والآخر ينتج نوع مختلف. كل البكتيريا ضمن تجمع بكتيري تسبب المرض بنفس الدرجة إلا أنها تضم اختلافاَ عشوائي.
قد يكون حدث تغير بسيط في حمضه النووي DNA أو شيء من هذا القبيل. لكن كلها تُعد نوعاً واحداً من البكتيريا.
وعندما تصيب الجسم يواجهها جهاز المناعة لكن إن كان هناك الكثير منها حينها قد تسبب الموت أو المرض أو أعراض أخرى.
إذا بدأ كل شخص بتناول المضادات الحيوية عندما لا يكون مريضاً فعلاً أو عندما لا تكون هناك حاجة ملحة له حينها تنجح المضادات الحيوية بقتل البكتيريا الخضراء (النافعة) لكن في المقابل كانت البكتيريا الزرقاء تتنافس مع كل البكتيريا الزرقاء (الضارة) للاستفادة من جسم المريض. أما الآن فهي وحيدة ويمكنها مضاعفة نفسها.
تذكروا أن البكتيريا لا تُكيف نفسها على مقاومة المضادات الحيوية بل هي مجرد تغير عشوائي وطفرات تحدث في الفيروسات والبكتيريا قد لا تمثل سوى ما نسبته واحد بالمليار.
إذاً بعد القضاء على كل البكتيريا المنافسة فإن هذا النوع المختلف سيبدأ بالتضاعف بسرعة ويصبح هو البكتيريا الطاغية، وفي هذه الحالة يصبح المضاد الحيوي المستخدم لقتل البكتيريا الخضراء بلا أي فائدة لوجود البكتيريا المقاومة للمضادات.
وهنا تظهر البكتيريا المقاومة للمضادات أو ما يعرف به الجراثيم الفائقة؛ وهي تظهر نتيجة الاستخدام المفرط للمضادات الذي ساعد على قتل منافسيها من النوع ذاته ما سمح لها بالسيطرة في ظل عدم القدرة على قتلها. لأن الأدوية المتوفرة جيدة في قتل منافسيها فقط.
هذه البكتيريا تستمر بإظهار الطفرات أكثر فأكثر، وإذا تم استخدام المضادات الحيوية بكثرة سيُساهم ذلك في تكاثر أنواع لن تتأثر بالمضادات الحيوية.
بشكل عام؛ إن الأحياء هو علم دراسة الحياة لكن إذا أردتم دراسة الأنظمة الحيوية لن تستطيعوا تجنب الانتخاب الطبيعي.
افترضوا أن هناك حياة موجودة على كوكب آخر حيث المخلوقات ليس لديها حمض النووي DNA أو ربما لديها شكل مختلف للمعلومات الوراثية المخزنة في خلاياهم، أو يتكاثرون بطريقة مختلفة، أو لا يُمثل الكربون أساس الحياة من الأصل.
تخيلوا أنكم انتقلتم إلى هذا الكوكب من أجل دراسة علم الأحياء هناك حينها لن يكون أيا مما تعرفونه مفيداً.
لكن في ظل فهمكم لمبدأ الانتخاب الطبيعي الذي تؤثر به البيئة على المخلوقات، والذي لا يضم أي عملية قائمة بل مجرد أحداث عشوائية تؤدي لظهور تغيرات عشوائية، وعبر فترة طويلة لا يمكن تصورها من الزمن تتراكم هذه التغيرات وتتحول إلى شيء مميز حينها ستتمكنون من فهم ما يحصل في أي بيئة كانت أو أي نظام حيوي آخر.