من المعروف أن إدارة حماية المستهلك في كل دولة متحضرة تحدد لكل منتج تاريخ صلاحية، يصبح بعد انتهائه هذا المنتج غير مسموح باستخدامه، وقد يكون من المضحك أن تقوم جهات حكومية بتحديد تاريخ صلاحية للبشر.
نعم! من سنتين مضتا تلقيت أنا وعدد من الموظفين في المؤسسة الحكومية التي كنت أعمل فيها، رسالة من الجهات الرسمية تقرر فيها الآتي: “انتهاء فترة عملكم في … ووافقت الجهات المختصة بالدولة على إحالتكم للتقاعد اعتبارا من….، ونعرب عن شكرنا وتقديرنا…”
لا أخفيكم أن وقع الرسالة كان شديدا علي، وتوقفت كثيرا أمام هذا القرار، وبدأت أسئلة كثيرة تحاصرني في آن واحد.. كيف؟ لماذا؟ ومتى؟.. كيف حددت الجهات عدم صلاحيتنا، وبناء على أية معايير؟ هل لمجرد أن تقرر هذه المؤسسة قرار إحالة بعض الموظفين إلى التقاعد تجمع كل من تقرر الاستغناء عنهم في سلة واحدة، دون النظر أو البحث أو حتى السؤال عن أداء هؤلاء الموظفين، ومدى فائدتهم لهذه المؤسسة، ومدى فاعليتهم من عدمها…؟ هل هناك معايير واضحة للقيام بعملية الإحالة للتقاعد وهل يتم إبلاغ الموظف بالأسباب؟
عادة في بيوتنا إذا قررنا أن نتخلص من بعض الأثاث أو الملابس، نقوم بجردها وترتيبها وبعد ذلك نقرر التخلص منها لأنها لم تعد صالحة للاستخدام أو لا تخدمنا، أو قد ينتفع بها غيرنا.. فهل تتم عملية مشابهة عند الجهات المختصة؟
صدمة الفطام
والعجيب أنني وكثيرا ممن انتهت صلاحيتهم لم نعرف كيف نتحرك للمطالبة بحقوقنا كموظفين في الدولة التي حرصنا على خدمتها باستقامة ومحافظة على كل قوانين العمل دون مخالفة أو تحايل، خاصة أن مؤسسات الدولة هي الحاضنة لكل خريجي جامعة قطر أو مدارسها في الفترة التي دخلنا فيها لمعترك العمل، وعلى حين غرة فطمنا وأحلنا للتقاعد دون سابق إنذار، أو حتى سؤال واستئذان ..
مررت بنوبات من الغضب على الدولة ومؤسساتها، وكيف أنها استغنت عنا بهذه السهولة، ومررت ببعض اللحظات المرة والحسرة على النفس، وكيف تم نبذنا بطريقة غير حضارية والتي قد لا تتسم حتى بالإنسانية، وكم وجهت العتاب واللوم على هذه المؤسسة، بل كان خطابي العام وصوتي في كل اتصال هاتفي أجريه الصراخ والحدة، والتجهم والتكشير في غالب الأحيان.
وأتذكر أن بعض الصحف والأقلام المحلية شنت حربا على هذه القرارات، وكتبت وسطرت في الجرائد الكثير من الكلام ودافعت عن أمثالنا ومن وقع عليهم مثل هذه الإعفاءات، وانتقدت الطريقة العشوائية وغير المحسوبة ولا المسبوقة أو حتى المستشرفة للمستقبل وعواقب هذه القرارات، ولم تخرج هذه الأصوات عن كونها مجرد تسجيل موقف دون أن تقدم حلولا أو حتى إجابات للأسئلة التي دارت في خلد كثير منا.
متعة الحراك
لم تهدأ نوبة الغضب التي امتلكتني لفترة إلا حينما قمت بعمل بعض المقارنات بين سلبيات وإيجابيات هذا القرار، وذات يوم توقفت مع نفسي ونظرت من حولي وحاولت أن أنظر إلى الدنيا من حولي من زاوية مختلفة، وقلت: “هل إذا قررت هذه المؤسسة الاستغناء عن خدماتي، أخذت معها عقلي، هل سرقت مني عزيمتي؟ هل شلت هذه الورقة قدرتي على التفكير والحركة؟ أو أن أبدع وأستفيد من الفرص الكثيرة التي من حولي؟ يبدو أن مرحلة صدمة الفطام من مؤسسات الدولة وولايتها ورعايتها كانت شديدة جعلتني لم أفكر بهذا كله من أول يوم”، بعد هذا الحوار الذاتي، شعرت براحة كبيرة ، شعرت بأن ماء زلالا باردا نزل على صدري، أطفأ غضبي وأعاد لوجهي الابتسامة والتفاؤل، وتذوقت حلاوة العسل بعد هذا الكأس المر.
صحيح أن قرار التقاعد سحب مني صفة حكومية وحولني إلى “متقاعد”، لكن ذلك لم يمنع ولم يحجر أن يكون عندي الكثير من الأنشطة الاجتماعية أو التطوعية غير الحكومية التي سخرت لها كثيرا من وقتي وجهودي التي كانت تستنفد في الوظيفة السابقة، وتعرفت على أشكال جديدة من الأعمال والأنشطة التي ما كنت سأعرفها أو أبدع فيها إلا بحسنة الإعفاء والفطام من العمل الحكومي.
“شكرا حكومة”
إن الخروج والنجاة من العمل الحكومي الروتيني وآلية الموظف وواجباته وساعات الدوام وانتهائها وأيام الإجازة، إلى أنشطة وأعمال محبوبة إلى النفس وممتعة للروح ومنشطة للعقل، فيه مساحة من الحرية تمنحك قوة للحركة لتجد نفسك وتكشف قدراتك، فأنا من يحدد ساعات العمل، وشكل النشاط الذي أقوم به، والحرص على التطوير والتفكير والإبداع والتنمية.
نعم خرج عقلي الإنساني من العمل “الروبوتي” إلى الوظيفة الحقيقية التي خلق لها، وظيفة الإعمار والاستخلاف في الأرض، أشكر الله وأحمده على نعمة وفرصة هذا “الإعفاء” الذي أضاف لي ولكثير ممن حولي، فشكرا حكومة.. وأهلا حرية..
بقلم: مريم آل ثاني
⇐ واقرأ المزيد في مقترحاتي: