هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي المدني إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وإليه ينسب المالكية.
وقد نشأ الإمام مالك في أسرة امتازت بانشغال أفرادها بطلب العلم ورواية الحديث، فجده مالك الأصبحي يعد من أكبر علماء التابعين، فقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان وغيرهما، وتلقي عليه العلم أبناؤه، ومنهم أنس والد الإمام مالك، وعمه نافع، والنضر أخوه الأكبر الذي نال مرتبة عالية في الفقه ورواية الحديث.
فلا غرابة حينئذ أن ينجب هذا البيت شخصية تواقة إلى طلب العلم، حريصة على التفقه في الدين، كشخصية الإمام مالك -رضي الله عنه-.
عاش الإمام مالك في عصر عرف فيه العالم الإسلامي تطورات سياسية مهمة، حيث ولد في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي، وتوفي في عهد الرشيد العباسي (93-179 هـ) وبذلك يكون الإمام مالك قد عاصر انحدار الدولة الأموية، واستيلاء العباسيين على زمام الخلافة الإسلامية، ولذلك يكون الإمام مالك قد شاهد ألوانا من الاضطرابات التي نشأت عنها بلبلة في الأفكار، وضروب من الفوضى، بلغت المدينة مقر الإمام مالك.
ورغم ما ساد هذا العصر من اضطرابات سياسية، فقد شهدت الأمة الإسلامية فيه تطورا حضاريا، ونموا اقتصاديا، وازدهارا في الحركة العلمية، حيث نشطت الدراسات الإسلامية نشاطا ملحوظا، فظهرت علوم القرآن الكريم كالتفسير، والقراءات، وعني المسلمون بحديث الرسول ﷺ وآثار الصحابة والتابعين، وجمعوا الفتاوي التي صدرت منهم عن اجتهاد، حينما يستفتون في أمر لم يبينه القرآن أو السنة.
وبالإضافة إلى هذه الحركة العلمية النشيطة التي عمت معظم الأقطار الإسلامية، فإن المدينة المنورة، مقر إقامة الإمام مالك الذي قضي فيها حياته، قد امتازت بأنها كانت مهبط الوحي، وموطن العلماء من أصحاب الرسول ﷺ ومن تبعهم من التابعين، وهم الذين كان يرجع إليهم المسلمون في كل مكان، إذا ألم بهم الأمر، أو تشابكت وتشابهت عليهم وجوه الرأي في مسألة من المسائل، وبذلك أصبحت للمدينة شهرة خاصة بالعلوم الإسلامية من تفسير، ومدارسة للحديث، واستنباط للأحكام الشرعية، وتكونت مدرسة فقهية عرفت في التاريخ بمدرسة (المدينة) أو (الحجاز)، كان الإمام مالك خير وارث لثقافتها في عصره، وأحسن مبلغ لها فيما بعد، إلى الأجيال المتتابعة من بعده.
بدأ مالك تعلمه مبكرا، فحفظ القرآن الكريم في صباه على طريقة أكثر الأسر الإسلامية، وأحكم أداءه على نافع أحد القراء السبعة، وإمام أهل المدينة، ثم أقبل على مجالس العلماء، فدرس كل ما يستعان به على فهم القرآن الكريم من لسان العرب، ومن ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه، ثم السنة المأثورة عن الرسول ﷺ ثم تلقي فتاوى الصحابة والتابعين التي كانت من أهم الدعائم التي بني عليها مذهبه فيما بعد، حيث اعتمد الإمام مالك في تعلمه على طريقة الأخذ من الأساتذة مشافهة لأن العلوم لم يكتمل بعد تدوينها، باذلا الجهد في طلب العلم، متحملا في سبيله كل مشقة، حتى إنه باع متاع بيته ليستمر في الترحال من مكان إلى مكان، طالبا لتحقيق مقصده، وبمثل هذا الجهد المتواصل والدأب على مواصلة الدرس، تسني لمالك أن يبلغ الذروة في تحصيل السنة النبوية وفي الفقه، حتى أنه عد فقيه الحجاز، ونال من ثناء شيوخه والعلماء حظا عظيما، حيث قيلت المقولة المشهورة (أي فتي ومالك في المدنية).
وقد ذاع ذكر الإمام مالك في عصره، وتناقل الناس علمه وفقهه، فتوافد إليه الطلبة من كل أنحاء العالم الإسلامي يتتلمذون عليه، ويسألونه الفتيا، ويتخرجون عليه في الفقه، وينقلون عنه الحديث، ويروون عنه كتاب (الموطأ) ثم عاد الطلبة المتخرجون منهم إلى أمصارهم، فانتصبوا للتدريس والإفتاء، وإن منهم من بلغوا من العلم والفقه مرتبة أستاذهم في الاجتهاد والفتيا، فاستقلوا عنه بمذاهبهم الخاصة كالإمام الشافعي -رضي الله عنه- وإن منهم من انقطع لمذهب أستاذهم الإمام مالك، فعملوا على نشره، والتوسع في مسائله بالاجتهاد على أصوله التي وضعها، أو أشار إليها، فسموا (أصحاب مالك) ومن أشهرهم: أبو الحسن على بن زياد في أفريقيا والأندلس، وأسد بن الفرات الذي توفي مجاهدا بصقلية، وسحنون الذي رحل إلى الحجاز ومصر، وعبد الرحمن بن القاسم بمصر، وعبد الله بن وهب، وأشهب بن عبد العزيز الذي انتهت إليه رئاسة المدرسة المالكية بمصر بعد ابن القاسم.
وأهم أصول المذهب المالكي: الكتاب والسنة، وقول الصحابي، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع.
وأهم مآثره (الموطأ والمدونة) وقد نشأ مذهبه في المدينة، وانتشر في معظم الأقطار الإسلامية، خاصة في أفريقيا، وأهل المغرب العربي.
بقلم: د. عبد الرحمن بدوي «باحث إسلامي».