حذرت 200 شخصية من كبار الكتاب والأدباء والأكاديميين والسياسيين وقادة المؤسسات الخيرية في بريطانيا من النضج المبكر لعقول الأطفال في عصر التكنولوجيا والوسائط الإلكترونية، حتى باتوا أكبر من سنهم على حساب براءتهم، ودعت لشن حملة للحد من انتهاك براءة الأطفال وتشجيعهم على اللعب في الهواء الطلق والتمتع بالمناظر الطبيعية والتحذير من مخاطر الشاشة التي يقضون جل أوقاتهم أمامها، مما يقلل فرص الخروج واللعب والاستكشاف وتحمل المخاطر.
كما دعت لحظر جميع أشكال إعلانات التسويق التي تستهدف الأطفال حتى سن السابعة، وأبدت قلقها بشأن هذه الممارسات التي من شأنها المساهمة في ارتفاع مستويات الاكتئاب بين الشباب فيما بعد.
فماذا يحدث لأطفالنا؟ ومن المسئول عن ضياع براءتهم؟ وهل هم أوفر حظا منا أم أقل حظا؟ وكيف نتفادى الآثار السلبية للوسائل التكنولوجية الحديثة؟
أطفال “البحلقة”
فأطفال اليوم يختلفون كثيرا عما كنا، عاداتهم ليس كعاداتنا في السابق وأفكارهم ليست أفكارنا وطريقة تعبيرهم تصدمك أحيانا كثيرة، ونظرتهم للأمور تجعلك في حيرة من أمرهم، حتى وسائل المتعة والتسلية الخاصة بهم والقائمة على نظرية “البحلقة” للشاشة أيا كانت نوعها، جعلتهم حقا مختلفين، فبات السلوك العدواني هو السمة المميزة للطفل الذي أصبح كل همه أن يضرب، ويسابق، ويقتل، كل في لعبته المفضلة.
وما زاد الأمر صعوبة تطور هذه الألعاب الإلكترونية من مجرد صراع بين قوى الخير والشر ينتهي بانتصار الخير، إلى صراع دائم ومتواصل في أحدث نسخة من هذه الألعاب وبما وصفه محللون أمريكيون بأنها تجاري ظروف الواقع الذي نعيشه من حروب وصراعات غير منتهية، وبدليل عدم امتلاك أمريكا خطة مرسومة للقضاء على تنظيم القاعدة نهائيا، وإنما فقط ردعه والتقليل من هجماته بأحدث الأساليب والأسلحة، وبما يرسخ فكرة العنف المتواصل في نفوس الأطفال.
أسير الشاشة
وهناك الكثير من النماذج التي لا تكاد تخلو منها أسرة، فعبرت “نجلاء” عن مدى قلقها عندما وجدت ابنها يلعب لعبة على جهاز الكمبيوتر وكلما اجتاز مستوى ظهرت سيدة تخلع قطعة من ملابسها كتهنئة له بالنصر وحافز للمواصلة وهكذا.
وتحكي مروة “صحفية” عن اندهاشها من ابنتها التي لم تكمل عامها الرابع فتقول: عرضت على ابنتي الخروج إلى إحدى الحدائق ذات يوم والتمتع بالملاهي والألعاب المختلفة ولكنها فاجأتني برفضها وتفضيلها للبقاء أمام شاشة الكمبيوتر لإحراز مستويات أعلى في لعبة السمكة المفضلة لديها أو الفوز بجولة جديدة في لعبة سباق السيارات.
وتعاني “تهاني” من السلوك العدواني المتزايد لدى طفلها ومحاولته تكرار مشاهد العنف التي يخزنها من الألعاب الإلكترونية والتي يقضي معظم وقته أمامها.
وهنا تقرأ: “الطفل الخاص”.. من المعاناة إلى النجاح
اختلال المدخلات يقابله اختلال في المخرجات
ويؤيد دكتور محمد المهدي الطبيب النفسي أهداف الحملة البريطانية موضحا أنها دعوة مهمة جدا بعد أن اختطف الطفل من متعة الطبيعة والانطلاق والعفوية والإبداع الذاتي، فالطفل أصبح أسيرا للشاشة والوسائل التكنولوجية التي جعلته جالسا بلا حركة أو إبداع أو مشاركة اللعب مع غيره من الأطفال وكل هذا انتزع منه براءته، بالإضافة أن هذه الوسائل اشتملت محتوى وآفاقا أوسع بكثير مما تحتمله التركيبة النفسية والمعرفية للطفل والطبيعي أن التركيبة النفسية للطفل تستوعب أشياء معينة في مراحل بعينها وعند عدم مراعاة ذلك ترتبك التركيبة النفسية له.
دليل الإدانة
ويعرض المهدي نموذجين لاقتحام هذه الأجهزة براءة الطفولة:
العاب العنف المعتمدة على القتال والحرب.. فإن كانت هذه الألعاب تلبي رغبة الطفل في الشعور بالبطولة والقدرة على هزيمة العدو، فهي على الجانب الآخر تزرع ميولا عنيفة في نفسه وتنتقل معه إلى الواقع الحياتي، ومع استمرار اللعب العنيف لساعات طويلة يتعود الطفل على نمط السلوك العدواني وبالتالي لا مكان لمفاهيم مثل الرحمة والتسامح.
المواقع الإباحية التي يتعرض لها الطفل بسهولة وبمجرد إدخال حروف صغيرة وبسيطة وبالتالي تؤثر في وعيه وإدراكه وتسمح له بمشاهدة أشياء ما كان له أن يراها.
ويؤكد المهدي أن هذين النموذجين من مشاهد العدوان ومشاهد الجنس يسببان نوعا من البرمجة المضطربة وغير المتوافقة مع مراحل الطفل العمرية.
المحتوى المحلي
وعن العلاقة بين الإبداع والتعامل مع الوسائط الالكترونية يقول دكتور محمد: الدراسات لم تتوصل إلى تنميتها للإبداع والخيال أو تحريك الابتكار فهي تعطي الأشياء جاهزة ولا تسمح بنمو الخيال، وتزداد المشكلة مع عدم وجود منتج يناسب ثقافتنا، فالغرب قد صمم ما يناسب ثقافته.
وينهي دكتور المهدي بتوجيه الانتقاد إلى معظم المحتوى المحلي القائم فقط على الوعظ الأخلاقي المباشر وغير المواكب لاحتياجات الطفل الذي أصبح في حاجة إلى مواد تتسم بالمصداقية والحبكة الدرامية وما يحرك خياله وفكره وإبداعه.
واقرأ أيضًا.. انتبه: احترامك لخصوصية أبناءك يقيهم من التحرش
المناعة وليس المنع
وبدوره يرى دكتور مجدي سعيد الكاتب بموقع أون إسلام أهمية التوازن بين تمتع الطفل بالهواء الطلق والتعامل مع الأجهزة التكنولوجية ومراعاة التقنين، ويُحمل الأسرة المسئولية كاملة عندما تترك الأطفال أمام الشاشات وبحرية تامة في سبيل الراحة وإشاعة جو من الهدوء المنزلي والتخلص من “الزن”.
ويواصل قائلا: لست مع المنع ولكني مع المناعة فالمنع يخلق الجوع ويعكس سلوك الضعيف ولا يتماشى مع عصر التكنولوجيا ويشبه ذلك بالطفل الذي يوضع في بيئة معقمة 100% فيضعف جهازه المناعي ويؤكد أن ما يكسب المناعة هو الاحتكاك وعدم الإحساس بالحرمان.
ويقدم سعيد نصيحة للآباء بضرورة التحلي بالذكاء الاجتماعي ومتابعة أطفالهم من بعيد وعدم إحساسهم بالمراقبة ومراعاة النقد والتقييم بشكل يتناسب مع مراحلهم العمرية.
وهنا نقرأ سويًا: لماذ يفشل الأبناء في تحمل مسئولية الزواج؟
المخاطر والوقاية
وتلخص دكتورة هناء القراقصي أستاذة طب الأطفال بجامعة القاهرة المخاطر الصحية لاستخدام الكمبيوتر في نقاط:
- تقلل من التفاعل الاجتماعي وتقلل من تعرض الطفل للهواء الخارجي.
- تزيد من مخاطر السمنة بسبب قلة الحركة.
- تسبب الأرق والقلق وصعوبة في النوم نتيجة الموجات الكهرومغناطيسية ووميض الشاشات التي تحفز كهرباء المخ.
- الجلوس لساعات طويلة يؤدي إلى تشوهات الأرجل ومتاعب صحية أخرى متمثلة في آلام المفاصل والعظام والرقبة.
ولأن التعامل مع هذه الأجهزة بات جزءا لا يتجزأ من حياتنا تنصح القراقصي الأمهات بقضاء وقت مفيد مع أطفالهن، وتشجيع الطفل على ممارسة الرياضة، وعدم استغلال انسجامه مع الألعاب الإلكترونية في تقديم المزيد من الوجبات والمشروبات عالية السعرات، وتنهي بضرورة أن يكون ارتفاع الشاشة مناسبا لمستوى النظر ومراعاة استقامة الظهر والرأس عند الجلوس، والأهم هو إعطاء الطفل وقتا محددا لهذه الألعاب على ألا تكون قبل النوم منعا للكوابيس والأرق.
بقلم: رشا عبيد