بعد الصلاة على النبي وآله فإن الله من علينا برسالة جامعة شاملة تامة، تقود خطانا –إذا أحسنا الاتباع- إلى كل ما فيه الخير لنا في الدين والدنيا وفي عاجل أمرنا وآجله، وتقينا مصارع السوء، وفي زمن اختلط فيه الحابل بالنابل وتاهت معالم الحرام والحلال، وأصبحت الفتن كالأمواج المتلاطمة التي تأخذ كل من يقف في وجهها، أصبح من الضرورة بمكان أن نمسك بتلابيب السنة النبوية والهداية المحدية لكي نصل بر النجاة، جعلنا الله هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
سوف نتناول في هذا الحديث قيمة من قيم الحكماء والناضجين والواعين لدروس الحياة وخباياها، ووسيلة من وسائل السلامة في الدين والعرض، وهي اتقاء مواطن الفتن بقدر المستطاع، وسنبين أهمية ذلك وفضله وأثره على الفرد والمجتمع وكيف نتدرب على ذلك ونكتسب من الفطنة وقوة البصيرة ما يعيننا عليه!
ما هي مواطن التهم وسوء الظن؟
شريعتنا الإسلامية تقوم على التوازن والتكامل بين التعاليم والأوامر، ومن ذلك الأمر بحسن الظن والدعوة إليه والتنفير من سوء الظن، وبيان تبعاته وأثاره السيئة على مستوى الأفراد والمجتمعات، وأيد ذلك بأمر مقابل وهو أن الإنسان يجب عليه أن يتق مواطن الفتن بكل ما أوتي من قوة.
والمعنى أنه كما طالب المسلم بأن لا يفترض السوء في تفسيره لأفعال وأقوال الآخر، وأن يلتمس له الأعذار ولا يتتبع خطاياه ولا عوراته، ولا يخوض في عرضه، فقد طالب هذا الآخر بأن يتفقد مواطن الفتنة والأماكن والأفعال والأقوال التي تلفت إليه الأنظار وتثير حوله الشكوك والاتهامات.
إقرأ أيضاً عن: أسس رعاية الأبناء في الإسلام
ومواطن الفتنة تلك جملة واسعة شاملة تشمل كل ما يمكن أن يؤدي إلى سوء الظن، كأن يتردد الإنسان على أماكن مشبوهة أو أن يرافق أشخاصا يعرفون بسوء سلوكهم أو سوء خلقهم، لأنه جرى العرف أن يحكم الناس على الشخص بأقرانه ومن يرافقهم في خروجه وعمله، كما تشمل مواطن الفتن أن يفعل الإنسان ما يثير الشكوك والتساؤلات حوله من سلوكيات أو أقوال أو إشارات.
الأثار التي تحث على تجنب مواطن الشبة والفتن
قلنا آنفا أن العقلاء والأذكياء يتحرون أماكن تواجدهم ويحسنون اختيار رفاقهم ومن الأثار التي وردت في هذا الشأن ما جاء عن الربيع بن أنس، حيث يقول مؤكدا ما أشرنا إليه من معنى: (من يَصْحَب صاحِب السّوء لا يَسْلَم ، ومن يَدْخُل مَدَاخِل السّوء يُتّهم، ومن لا يَمْلِك لسانه يَنْدَم). ومنه ما جاء عن زيد بن ثابت –رضي الله عنه وأرضاه- أنه قال: ( إني لأكره أن أرى بمكان يساء الظن بي).
ومن الحث على تفكر الإنسان ودراسة أفعاله وأقواله وما يصدر عنه من سلوكيات، حتى لا يصدر عنه ما يفضي إلى سوء الظن به ووصفه بما ليس فيه أو اتهامه بما هو منه براء ما ورد عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- أنه قال: ( مَن سَلَك مَسلك التُّهم اتُّهِم)،وقد ورد هذا المعنى بصياغة أخرى: (من أقام نفسه مقام التهمة فلا يَلُومَنّ من أساء الظن به).
ثمار هذا السلوك التي يجنيها الفرد والمجتمع
من أهم ثماره أن الإنسان يحمي عرضه من الخوض فيه قدر الإمكان، ويعفي نفسه من الاتهامات والشكوك، وخاصة في مجتمع يميل ميلا عجيبا إلى تصديق الاتهامات وتعظيم الخطايا والزلات.
كما يعفي الآخرين من تحمل ذنب الغيبة والنميمة وسوء الظن، وما ينجم عن ذلك من البغضاء والحقد والتشاحن بين الناس، وما يترتب عليه من عشوائية التفسيرات وردود الأفعال.
ومن اللطائف الرقيقة التي سمعتها ذات يوم في هذا الصدد أنه كان للأعشى صديق أعرج فالتقيا ذات يوم وأراد صديقه الأعرج أن يمضيا معا، فقال له الأعشى ما معناه، أنه لا يحب أن يسيران معا لأن سيرهما يثير تعليق الناس عند رؤيتهم، فيسخرون قائلين: أعشى وأعرج!
فأجابه صاحبه: ماضرنا أن يسخروا منا، يأثموا ونؤجر!
فقال له الأعشى: وما ضرنا أن يسلمو ونسلم.
وأخيرا أخي المسلم وأختي المسلمة ينبغي أن نحمي أنفسنا من كل ما يعرضنا لسوء الظن أو يجعلنا في موقف المدافع عن نفسه، فالعمر لا يتسع لتضيع ساعاته في دفع التهم أو تبرير الأفعال، لا داعي لأفعال تحرمنا حتى الثواب عما نتعرض له من غيبة أو نميمة أو افتراءات.