مصالحة النفس
كلنا يعلم خطورة الشقاق والصدام، والضرر الكبير الذي ينجم عن التفرق ورفض الآخر، وكلنا يعلم أنها أمور تشوه المشاعر وتدمي القلب ولا تورثه إلا المتاعب والأوجاع والكراهية وتحرمه لذة الراحة، فالمجتمعات التي يرفض بعضها تقبل البعض الآخر يصبح بنيانها ضعيف وواهٍ، مفكك من داخله لا يقوى على الصمود في وجه التحديات التي تطرأ عليه كل يوم، وانشغاله بالغليان الذي يحدث داخله يهدد قدرته على النجاح والتقدم، ويعوق سعيه لتحقيق أحلامه.
فدائما رفض الآخر وعدم تقبله هو سببا رئيسيا من أسباب التعاسة وبابا من أبواب الشيطان يدخل منه ليحزن الإنسان، ويكدر صفوه، ويجعل الحياة أكثر صعوبة ومشقة، بل يشعل نيران التمرد ويعزز الكراهية والبغضاء!
لأجل ذلك أمرنا بالتصالح والتسامح ودُعينا بإلحاح إلى تقبل الآخر، ومحاولات الرضا عن كل من يحيطون بنا، ومن ثم التماس الأعذار لهم والتجاوز عن زلاتهم، وتقبل طباعهم وسجايهم، فكل هذا يجعلنا نتمتع بسلامة القلب وصفاء السريرة والراحة.
فإذا كان هذا حالنا وحال صراعاتنا مع غيرنا، وإذا كان كل هذا الضرر ينتج عن رفضنا للأخر وعجزنا عن تقبله والتكيف معه، توتر وقلق وكراهية وضغط، فما بالنا برفض أنفسنا لأنفسنا، وما بالنا بالسخط عليها وعدم تقبلها؟ وما بالنا بالصدام والخصام فيما بيننا وبينها؟
والآن ونحن نقف على أبواب عام جديد، ونسأل الله فيه السلامة وننشد الخير بين أيامه يجب أن نعلن الحرب على تلك الحرب التي تدور رحاها بداخل بعضنا، ولنوقف هذا الصراع المحتدم ونضع للخصام مع أنفسنا حدا فاصلا، ونهاية لا تقبل الفصال.
فليذهب الخصام إلى الجحيم، وليرحل بلا عودة كما رحل عامنا القديم بلا عودة، ولنبدأ من جديد مع بداية هذه السنة صفحة بيضاء وهدنة طويلة مع أنفسنا!
وهديتي إليك عزيزي القارئ الذي أرهقك الصراع مع نفسك، وأعياك رفض ذاتك، وأوجعك جلدها! وأنت عزيزي القارئ الذي يعجز عن تقبل نفسه ويتمرد على مسلمات واقعه، ويعلن الحرب على ثوابت حياته، بعض النقاط والعلامات المضيئة التي ترشدك في طريقك لعلاج نفسك وتعينك على التصالح معها، لتعرف لذة الرضا عن النفس وتقبلها، وتجرب متعة الانسجام السلام الداخلي.
اعلم أن الرفض وحده لا يكفي لتغيير ما لا تحبه في نفسك، توقف عن الرفض المفرغ من قيمته وابحث عن طرق عملية ومشروعة لتحسين الأوضاع التي تزعجك، حاول، وأن أخفقت أعد المحاولة، واعلم أن محاولات تغيير أوضاعك وتطويرها للأفضل هي في حد ذاتها تغير للأفضل، وأن الله سوف يفتح لك أبوابا لم تكن تتخيلها ويعينك.
قدرتك على تقبل نفسك والاعتزاز بها برغم ما لا تحبه فيها هو نصف قدرتك على النجاح في تطويرها وتجميلها وتنميتها.
غير ما تستطيع تغييره، وتقبل ما لا يمكنك تغييره، وكن حكيما واعيا بما يكفي لتتميز بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره، فظروفك المادية الصعبة أو امكانياتك الاقتصادية المحدودة أو منطقة سكنك أو محل عملك، كلها أمور يجدي معها المحاولة ويمكن بالصبر والمجاهدة والعمل الجاد تغييرها أو تحسينها، أما جنسك ونوعك وشكلك، وملامحك صحتك، وقدراتك الجسدية وامكانياتك الجسمانية، وأبوك وأمك وإخوتك، كلها أمثلة لسمات لا تملك تغييرها، لأنه لا سبيل لك إلى اختيارها ابتداءً!
درب نفسك على التقبل ثم ارتقي إلى مرحلة الرضا عن كل ما فيك، واعلم علم ليقين أنك أفضل من ملايين البشر وأن ملايين من المحرومين والمرضى والمبتلين يتمنون مكانك، ويطمحون إلى ما لديك من النعم.
توقف فورا عن مقارنة نفسك بغيرك، فإن من أعظم أنواع ظلم النفس أن تسجنها في سجن المقارنة مع الغير، وتحكم عليها من زاوية رؤيتك للغير، فهذا الظلم يمثل عبئا إضافيا على نفسك، فأنت بذلك تحملها فوق ما تطيق، اعلم أن مقارنتك أبدا لن تكون مقارنة عادلة في يوم ما، لأنك تقارن نفسك التي تعلم حالها وتعرف خباياها بغيرك ممن لا تعلم حاله ولا تدري شيئا عن خباياه، ولعلك لو عرفت ما يخفيه لاستعذت الله من أن يجعلك مكانه ولحمدته حمداً كثيراً على ما أتاك من النعم!
ابأ عامك الجديد بروح طيبة صافية متصالحة، سامح نفسك ولا تقس عليها، خذ بي نفسك فلا أحد غيرك يمكنه ان ينقذك!!