جميل جدا أيمن الجندي، هذا الأديب الطبيب، الراقي الرقيق؛ العفيف الأليف، الوديع البديع: جميل في فكره، وفي طرحه، وفي لغته، وفي حسن تأتيه، جميل حين يتحدث عن أي شيء، فيجرك بنعومة وآدمية ورقة مدهشة نحو ما يريد، فتصدقه منوما، ازاي .. دا سر بينه وبين ربنا ﷻ..
جميل هو، حتى حين تحدث عن “جانيت فيغالي” الشهيرة بالشحرورة، التي تهرب منذ 139 سنة من الزمان، وآثار الزمان، وسخريات الزمان، تلك المنطبعة بقوة على وجهها وجسدها وصوتها، ومع هذا تصر على أن تشد جلدها، حتى وصل جلد كعب رجلها إلى صدرها من كثرة الشد، وتصر على أن تشد صوتها، حتى صار مثل صوت سخلة تدخن بشراهة، فلا تدري أهو غناء أم كحة، وتصر على أن تطيل قامتها بباروكة نص متر لفوق رغم أنها صارت تطول للداخل!، وتصر على أن تتجاهل، ثم تتصابى، وتتغندر، وتتقصع؛ كأنما هي عشرينية غيداء جيداء حوراء!.
اسمح لي أيها الجميل أن أداخل أو أشاغب أو أزعج –وقلبك أبيض– بأن الحالة ليست صباحية فيغالية فقط، بل إن سيندروم التشحرر هذا يصيب الملايين من خفاف الأحلام، ضعاف البصيرة، الذين يختزلون الحياة الإنسانية كلها في شيء واحد؛ هو اللذة والنرجسية ومنطق: واغنم من الحاضر لذاته/ ولك الساعة التي أنت فيها / احيني النهارده و… / احنا هنعيش كم مرة / أما نقابل ربنا تفرج!.. فهم يستنفدون الكأس ما بقيت –أو توهموا– أن بها قطرة!.
جمال المشيب
إنه التشحرر سيندروم.. أتعرفه يا سيدي الدكتور.. عافاك الله؟.. إنه منطق الأبيقوريين الذين يختزلون المراحل، ولا يفهمون أن كل مرحلة من عمر الآدمي رائعة بذاتها، لها جمالها، ولها قيمتها، ولها خصوصيتها.
تأمل حلاوة مرحلة الحمل والولادة والعناء والتعب والوجع والسهر وهدة الحيل، ثم انظر كيف تستمتع بها الأم –على أوجاعها ونصبها– وتحب تكرارها مرات، وانظر حسرة من لن تعشن التجربة، ويتوحمن ولو على جنين شائه!.
تأمل حال طفل يدرج ويكبو، والعيون تنظر إليه لامعة ببريق الحب، والأيدي تصفق حين يتعثر وينهض، وينهض ويتعثر، وفمه يلفظ همهمات مبهمة هي أحلى في آذان من حوله من نونية ابن زيدون، ومن سلوا كؤوس الطلا، ومن أصوات كل الشحرورات الشابات، بل من كل سيمفونيات الدنيا!.
تأمل روعة حال الطفل الذي بدأ يتحرك ويجري ويقفز فوق الكراسي، ويكسر الأشياء، ويبهدل هدومه، ويخرب جهده، ثم هو على قلب والديه أحلى من العسل!، ولو لم يفعل ذلك لقالوا: فيه إيه؟ الواد ماله؟!.
تأمل روعته يوم يدخل المدرسة لأول مرة، وكيف حال أمه وأبيه، وحاول قياس حجم الأمل والشوق والاستشراف، التي تعتمل في قلب والديه، وطمعهم أن يكون ابن تيمية أو شوقيا أو مشرفة أو العقاد!.
تأمله حين يراهق ويتصور نفسه ولا آلان ديلون، حين ينتهي من الجامعة ويتصور أنه يستحق ما لا يستحق مصطفى السيد، ثم حين يتزوج ويتصور أنه ديك البرابر، وحين يدق أبواب الأربعين، وينحو بحياته منحى مختلفا، ولسانا حاله ومقاله يهتفان: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي.. ثم تأمله حين يشتعل رأسه شيبا، ويتحول إلى كائن رباني راض، وديع مبتسم، يملك الخبرة والحب، ويوزع الحكمة والخير، حين يستحي الله ﷻ أن يعذبه (إن الله ﷻ يستحيي أن يعذب ذا الشيبة المسلم) انظر إليه كيف تكون وضاءة وجهه، وسكينة نفسه، وجمال ظاهره وباطنه، وقربه من الرحمن الرحيم.
لكل مرحلة من هذه المراحل يا سيدي جمالها.. وهذا محدد في القرآن الكريم والسنة المطهرة بوضوح شديد.. لكل مرحلة رونقها وبهجتها.. ولكن المتشحررين لا يفقهون!.
وحتى الحساب سيكون وفق المراحل والأحوال، فابن عشرين لو زنا غير ابن ستين، وكذب السوقة غير كذب الملوك، وزينة بنت العشرين غير تبرج الدردبيس التي لا ترجو نكاحا! ولكن المتشحررين لا يعلمون!.
خدعة إبليس
إن المصابين بسيندروم التشحرر يريدون المراحل كلها مرحلة واحدة، يتحول فيها الإنسان إلى كائن (بريالة) تائق شبق مسعور على الجنس والدنيا – منذ مولده حتى هلاكه – كأنما خلقه الله ﷻ لا ليعبده ويوحده، لا ليعمر الأرض ويقيم حضارة، بل ليكون دون جوان يخلع الشريكات (أو الشركاء) كما يخلع جوربه!، وليست شحرورتنا وحدها هي التي ضربت الرقم القياسي في تبديل الأزواج، أو الانخداع بهن، وانظر حولك تر مصداق كلامي.
لهذا السبب صار 25 % من بنات بريطانيا يحضن في سن الثامنة ونصف، ولهذا تجدهم منذ القدم جادون بحثا عن وسائل إعادة الشباب: الإكسير، وشجرة الحياة، وماء (المحاياة)، ويدأبون في اختراع أدوية إطالة العمر واستعادة الحيوية!.. بل كانت المحاولة الأولى من المجرم الأكبر إبليس عليه لعائن الله للإغواء والمخادعة (هل أدلك على شجرة الخلد، وملك لا يبلى) (ما نهاكما ربكما عن تلكما الشجرة إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين)!
وانظر تر كثيييييرا ممن جاوزوا الستين والسبعين من (الرايقين) وقد (تشحرروا) فلبس أحدهم قميصا مشجرا، وشورتا، وفتح صدره، وأحاط (جيده) بسلسلة، ولف جنزيرا على معصمه، ووضع يده في يد متشحررة من أيام السينما الصامتة، قد تمكيجت وازينت وظنت أنها آفا جارنر، أو آسيا داغر.
انظر في الصفوة من أهل الفن (واللي مهببينه في نفسهم) ورجال المال، وأهل السلطان، وأصحاب الجدة بشكل عام، وستجد (كثيرا) منهم متشحررين لا يعيشون المرحلة، ويحسبون أنهم مخلدون!.
لأجل المحبة
إن حلاوة الإسلام أنه جعلها مراحل ومستويات: في العقل، والصحة، والعطاء، والمؤاخذة، حتى الحياة الجنينية هي مراحل: (يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث، فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، مخلّقة، وغير مخلّقة، لنبيّن لكم، ونقرُّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثمّ نخرجكم طفلاً، ثمّ لتبلغوا أشدّكم، ومنكم من يُتَوفّى، ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذل العمر؛ لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً)!.
ومن رحمته ﷻ أنه يحاسبنا بمعايير مختلفة، فلا حساب على من لم يبلغ؛ ويعذر الله ﷻ صبوة الشاب ذي الاندفاع، حتى ورد في الحديث الحسن: (إن الله ليعجب من الشاب ليست له صبوة)، وإن الذي يسرق جوعاً غير الذي يسرق أمة، والذي يضعف مرة غير المستبيح!.
إن التشحرر عرض لمرض كبير هو حب الدنيا وكراهية الموت، الهروب الدائم مما هو آت: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة..).
طبيعي أن أكون (أنشف منك) يا دكتور أيمن، فمن الرحمة أحيانا أن نكسر عظم المريض، أو نبتر قدمه إذا خشينا على حياته.. طبيعي أن نتخلص من الجنين رحمة بالأم، طبيعي أن نسقي أنفسنا دواء مرا لنشفى، ونعيش حياة آدمية متوازنة.
وطبيعي جداً أن نقول للشحرورة بلاش كدا.. وطبيعي جداً أن نعوذ بالله من داء التشحرر، أو أن نرد إلى أرذل العمر لكيلا نعلم من بعد علم شيئا.. أحبك في الله..
بقلم: الشيخ عبد السلام البسيوني
⇐ واقرأ أيضًا عزيزي القارئ: