عِندما نُريد أن نبدأ مقالا بحثيًا أو حتى مجرَّد موضوع تعبير عن أهمية القراءة في حياتنا؛ سواء كانت للفرد أو المجتمع. يجب أولا أن نذكر أنه كان من تمام نعمة الله على هذه الأمة أن بعث فيها رسولا، وأنزل إليها كتابا. وقد كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب. وما إنزال كتاب عليها إلا دعوة لها لتقرأ؛ إذ لا يمكن لها أن تتعامل مع ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه إلا بإتقانها القراءة. وما كان ذلك كله إلا لأن الله أراد لهذه الأمة أن تنتقل من حال إلى حال؛ لتكون خير أمة أخرجت للناس.
ولقد امتن الله عليها بذلك فقال -في سورة الجمعة- ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾.
وإن من عظمة هذه الأمة التي بعث الله فيها رسولا أنها لم تكن مرتبطة بعِرق ولا جنس ولا لون، بل أريد لها أن تكون أمة عالمية، يدخل فيها الناس في كل زمان ومكان ليكونوا منها؛ فيتحقق وعد الله تبارك وتعالى ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾.
حث الإسلام على القراءة
لم يكتف القرآن الكريم بالإشارة بإنزال الكتاب على حض الأمة على القراءة، بل أمرها أمرًا صريحًا بذلك؛ فقال لها في أول ما نزل على النبي ﷺ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. ومن هذه الآية الكريمة نجِد كيف حث الإسلام على القراءة بهذه الأولويَّة.
والقراءة التي أرادها الله من هذه الأمة ليست مرة واحدة، أو شيئا يشبه التسلية، بل أريد لها أن تكون القراءة فيها منهاج حياة يحيا عليه أفرادها ويموتون، ولذلك تكرر الأمر الرباني مرة أخرى بعد آية واحدة من وروده، فقال الله جل جلاله: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾.
أهمية القراءة في حياتنا
ويا للعجب -أيها المؤمنون- إذا ما نظرنا إلى ما اقترن بالأمر بالقراءة؛ فإن الله ذكر الخلق عموما، وذكر خلق الإنسان من علق؛ تنبيها لهذه الأمة على نوع خاص من القراءة.
وإذا تمعَّنا في مدى أهمية القراءة في حياتنا نجِد أنها التي ترفع وتحرر الإنسان من التخلف والجمود، وهي التي تجعل الإنسان واسع الاطلاع، فإن ذلك كله مما يعينه على تدبر الكتاب المنزل، ويجعله قادرا على فهم معانيه ومراميه التي لا تزال تنكشف للبشرية يوما بعد يوم؛ فإنه الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه.
ولما كان القرآن الكريم هو المنهاج وهو الروح أريد من الإنسان أن يفتح عليه عينيه، ويغلق عليه عينيه؛ ليكون الصاحب الذي لا يفارق الإنسان من المهد إلى اللحد. وقد جاء الهدي النبوي منبها على هذا المعنى، فقال النبي ﷺ: «علموا أولادكم القرآن، فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو».
أهمية اللغة العربية «تحديدًا»
إنَّ أجمع الخير ما كان فيمن يتعلم القرآن ويعلمه. وهنا يقول النبي ﷺ في الحديث الشريف «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
وكان من لوازم القدرة على التعامل مع الكتاب العزيز معرفة اللغة التي نزل بها، وكيف بإنسان – عباد الله – لم يأخذ حظه من لغة القرآن يستطيع أن يكشف عما فيه من علوم متنوعة، وحكم بالغة، وعظات وإرشاد، وأحكام وأسرار؟! أليس مُنزِّل القرآن المبين هو الذي يقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ | عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ | بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين﴾، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾؟
وما كانت اللغة العربية وعاء لكتاب الله إلا لأنها أسهل اللغات وأقدرها على حمل القرآن الكريم، ومن يسر القرآن يسر اللغة التي نزل بها القرآن ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر﴾.
طلب العِلم ومحو الأميَّة
اعلموا أن الأمية تتلون أشكالها وتختلف أحوالها بتقدم الزمان. وقد كان من إفرازات الحضارة الحديثة أميات متنوعة ابتليت بها البشرية. فهناك أمية حضارية يدخل تحتها أنواع من الأميات، ومنها الأمية التعليمية، فقد تجد إنسانا حائزا لشهادات – وقد تكون شهادات عليا – وجاز مراحل دراسية وطواها، وهو لا يجيد القراءة والكتابة، فتجده أقرب إلى الذي لا يقرأ ولا يكتب منه إلى الذي يقرأ ويكتب.
وإنه ليداخل الإنسان العجب من هؤلاء الذين يزيدون ولا ينقصون كيف تجاوزوا تلك المراحل، وطووا تلك السنوات، وتزداد عجبا منهم أنهم لا يحاولون إصلاح أحوالهم وجبر خللهم، بل إن شهاداتهم تلك زينت لهم أنهم أكبر من أن يتعلموا، أو منعهم حياؤهم من إظهار ما هم عليه، وفي الأثر: “لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر“.
ولو أدرك هؤلاء مقاصد القرآن لعلموا أن العلم لا يتوقف عند حد، ولا ينتهي عند نقطة، وما أمر الله نبيه بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم؛ فأمره أن يقول: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما﴾.
وهناك أمية لا تقل ضررا عن سابقتها، فتجد إنسانا يحمل شهادة أو شهادات، وتجده يأكل ويرمي فضلات الطعام. وقد يرمي شيئا من السيارة وهي تسير، ويمر ولا يسلم، ولا يرعى حقا لإنسان ولا لطريق ولا لشجر ولا لحجر. فلم ينتفع بما علم، وما قيمة العلم من غير عمل؟! وفي الحديث عن النبي ﷺ قال: «ويل لمن لم يعلم مرة، وويل لمن يعلم ولم يعمل مرتين».