على إحدى القنوات الوثائقية تابعتُ برنامجا يوثق حياة الرعاة الذين قد ينعزل أحدهم لأشهر، وربما لسنوات، في إحدى دول أمريكا الجنوبية. كان أحدهم قد قضى ما يزيدُ على عشر سنوات في مهنة الرعي، وكان كوخه منفردا عن بقية الرعاة الذين يعيشون في مجموعات لا تزيد على الثلاثة ولا تقل عن اثنين! بعضهم يهتم بتربية الخيول، لكن غالبيتهم يرعون الأغنام.
الراعي المنعزل تحدث إلى البرنامج عن الأسود التي تهدد الماشية قائلا: «لا يمكنكم مشاهدة الأسود الآن، أظن أن الجوع هو محركها الأساسي الذي يدفعها لمهاجمة الخيول والمواشي»، صمتَ للحظة، ثم أضاف: «الجوع هو مبعث السلوك للبشر وللحيوانات في هذه المراعي». بهذه الكلمات العميقة كان يتحدث الراعي المنعزل، وهي لغة تنم عن تأمل عميق، كما تدل على وعي حادٍ يمكنه أن يفسِّر الظواهر المحيطة والسلوكيات التي يشاهدها قبل أن يبدأ في الحديث عنها.
كلمات هذا الراعي جعلتني أتأمل كثيرا ما يكتبه شعراؤنا ورواتنا ومثقفونا في الوطن العربي، فمن النادر أن تجد البساطة والعمق في نتاجنا الأدبي، ذلك أن كثيرين منهم لا ينطلق، أصلا، من رؤية محددة لما يحيط به، كما يفتقر إلى فضيلة التأمل، فضلا عن وجود الهدف الإنساني الحقيقي الذي يدفعُ إلى الكتابة والإبداع، فلا أسئلة كونيَّة، ولا هم إنساني، ولا قدرة على استيعاب ما قرأه من ثقافات الشعوب، ولا استعداد للبحث عن شيء يكون أبعد من جناية أرباح وقتية ممثلة في المال أو الشهرة أو المكانة الاجتماعية.
حين أعود لتأمل مكونات ثقافتنا بصورة عامة فإنني أجد أننا نتاج طبيعي لأساليب عربية عاشت طيلة قرون وهي تتناسخ دون أي تجديد على مستوى المضامين، كما أننا أخلصنا كثيرا لإعلام عربي يكاد يكون سيناريو تكرارٍ لا أكثر، فلم يعد من الممكن الخلاص من القوالب الجاهزة التي قد تصل إلى حد استغباء الناس والسخرية من فرديتهم؛ إذ لا يمكن أن ينحاز الناس إلى فرديتهم ما دام قد نشأ على عبارات كررتها المسلسلات والأفلام العربية طويلا كعبارة «أنا وأنت واحد يا حبيبي» التي ترددها الزوجة في جميع الأفلام وكأنها مسلَّمة.
بل وصل البؤس في هذا الإنتاج إلى حدِّ أن من يفكر في الثورة على حياة القطيع يصرخ بأعلى صوته، كما في الفيلم أو المسلسل: «أنا قرفت، حسيب الشركة دي وأعمل شركة وحدي!»، أي أن هذا المتمرد لا يملك إلا أن يفكر في ذاته المنفردة وكأنها قطيع ليستوعب وجوده المطمور أبدا في جماعة لا تحرض على التفكير، ولا تريد لأي فرد منها أن يكون واعياً وعميقا.
بقلم: حامد بن عقيل