الله عز وجل عالمٌ بعباده، خبيرٌ بما يصلحهم وما يفسدهم، وما افترض عليهم شيئا إلا لغايات جليلةٍ ومقاصد نبيلةٍ، فكانت فرائضه تربية للنفوس وتهذيبًا لها وإصلاحًا لأحوالها، فمتى التزم المسلم بما افترض عليه وترك ما نهي عنه حقق معادلات النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، واستطاع أن يهتدي بنفسه إلى أسرار النجاة.
والصوم لم يكن بمنأى عن تلك القاعدة بل جاء معززًا لها ومؤكدًا لمضمونها، فنحن جميعًا نعلم أن الصوم لم يفرض لتعذيب الناس ولا للمشقة عليهم ولا لمجرد حرمانهم من النعم، بل فرض لحكم معينة، وهنا سيدور الحديث حول تلك الحكم.
أهم المقاصد والغايات التي فرض لأجلها الصيام
معظم مقاصد الصوم تصب في دائرة بناء الإنسان وتعزيز شخصيته وتنمية الإرادة وتعليم المسلم إدارة رغباته والسيطرة عليها وتوجيهها إلى ما لا يتعارض مع أوامر الله وشريعته وذلك من خلال ما يلي:
تحقيق التقوى
يقول الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وتعتبر الآية الكريم إشارة للغاية العظمى من الصوم وهو تقوى الله، وما تشمله من معاني الطاعة التزام بالأوامر واجتناب النواهي.
تعليم الصبر والتحمل
الصوم نصف الصبر، والصبر على الحرمان من الطعام والشراب وغيره من المباحات، لساعة معينة نزولًا على أوامر الله عز وجل وامتثالًا لها، هو نوع من الصبر يجمع بين ثناياه كل صور الصبر، فهو صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر على قدر الله، وكلما كان الصوم مع تحقق المشقة كان أجدى وأكثر فاعلية في ترسيخ قيم الصبر والتحمل والمجاهدة ومخالفة الهوى، والصبر هو قوام شريعتنا وأساس عقيدتنا، ومدار أحكامها فأحكامها كلها تدور حول أمر واجب التنفيذ ونهي واجب الانتهاء عنه، وبين هذا وذاك تقف دوافع النفس ورغباتها في صراع لا ينتهي، فمن صبر على الصيام يستطيع أن يصبر على ما سواه.
تعزيز قيم الإخلاص والمراقبة
الصوم سر بين العبد وربه، لا يكشفه أحد ولا يطلع عليه إلا الله، فهو عبادة تقوم على المراقبة والإخلاص لله عز وجل، وتعكس بوضوح يقين المسلم بعلم الله واطلاعه على سائر أحواله، وهذا اليقين لب العقيدة والحامل على الطاعة والإحسان والتقوى، لذا نسب الله عبادة الصوم لنفسه فقال: “إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”.
تعليم المسلمين قيم التكافل وحثهم عليها
الجوع والعطش الحاصل مع الصيام يذكر المسلم بإخوانه من الفقراء والماسكين واليتامى والمحرومين، ويذكره بالحيارى التائهين في روب الحرمان الفاقدين لأسباب الحياة وقوامها، وربما كان ذلك دافعًا محركًا لعاطفة العطاء والبذل والمساعدة، وخاصة إذا ما تزامن ذلك مع شهر الكرم والعطاء؛ شهر رمضان المبارك، فالشعور بأوجاع الحرمان التي يعانيها إخواننا في الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها هو بعض جوهر العقيدة الإسلامية وجزء من سلامتها وتمامها، لأنه نوع من الاهتمام بأمر المسلمين، والذي لفت النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر إليه إذ يقول: من لم يهمه أمر المسلمين فليس منهم، فالصوم رسالة تذكير بمعاني التكافل.
التدريب على استشعار قيمة النعم وشكر الله عليها
الطعام والشراب والنكاح هم وسائل لإشباع احتياجات فطر الإنسان عليها، وكونها متاحة مباحة بلا مشقة ولا اثم فهذا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الناس، ولكن سهولة نيلها وتوفرها تجعل الإنسان ينسى أو يتناسى أو يجهل قيمتها، فيأتي أمر الله بالصيام ليتذوق المسلم الغارق في تلك النعم مرارة الحرمان المؤقت، فيدرك قيمة ما في يديه وينتبه للحفاظ عليه، ومن أولى خطوات الحفاظ على النعم أداء حقها وشكر المنعم، فأداء حقها بالصدقة واستغلالها فيما شرعت له بلا شطط أو تجاوز أو غلو، ووضعها فيما حدد الله لها، والشكر لله بحمده ونسب النعم والفضل إيه عز وجل.
الصوم غلبة على الشيطان
الصوم قهر للشيطان وتضييق لمداخله وإضعاف للشهوة الجامحة التي تتولد من الاكتفاء والشبع وتحد بالحرمان والعطش، كما أنه كسر للشهوة وتضييق لها، وذلك كله حاصل مع امتناع الانسان عن الطعام والشراب والجماع بدافع الامتثال لله والخضوع لأوامره.
وأخيرًا: لنعلم ان الله لم يفرض علينا شيئًا عبثًا، ولا يريد بنا العسر للعسر في حد ذاته، ولكن لنعلم أننا سواء فهمنا أو لم نفهم المقاصد من أوامر الله فنحن مطالبون بالتزامها والخضوع لها.