مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده، وجعلها صلة بينه وبين خلقه، نحمده ﷻ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خير من قام بين يدي ربه، وأحسن عبادة مولاه، ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وسار على نهجه إلى يوم نلقاه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
الخطبة الأولى
عبادَ الله: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة والمحافظة عليها لأنها عماد الدين ورأس القربات، يقول الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) النساء: 103، ومن عظيم قدر الصلاة وفضلها أن الله تعالى فرضها في السماء في ليلة الإسراء والمعراج، ومن رحمته ﷻ أنه خفف على عباده فجعلها خمس صلوات وجعل أجرها بخمسين صلاة، والصلاة على وقتها هي أحبّ الأعمال إلى الله تعالى، وهي مقدمةٌ على برِّ الوالدين، وعلى الجهاد في سبيل الله، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، سَأَلْتُ النبيَّ ﷺ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّه” صحيح البخاري.
وهي الركن الوحيد الذي لم يرخص الله ﷻ بتركه بأي حال من الأحوال فالواجب على المسلم أداء الصلاة، سواء في صحته أو في مرضه، وفي حال أمنه أو خوفه، يقول الله تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) البقرة: 238-239، وقال رسول الله ﷺ: ” صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ” صحيح البخاري.
ولا بدّ لكل مسلم أن يتعلم أحكام الصلاة وشرط صحتها، وأوقاتها، وأركانها، وسننها، ومبطلاتها، حتى يعبد المسلم ربّه ﷻ على علم، وكيلا يقع فيما يبطلها أو ينقص من أجرها، فإن رسول الله ﷺ قال: “إنَّ الرجلَ ليُصلِّي ستِّينَ سنةً و ما تُقبَلُ له صلاةٌ، لعله يتمُّ الركوعَ، ولا يتمُّ السُّجودَ، ويتمُّ السجودَ ولا يتمُّ الركوعَ” مصنف ابن أبي شيبة، ويقول رسول الله ﷺ: “إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا” سنن أبي داود.
واعلموا عباد الله أن معنى الصلاة هي الصلةُ بين العبد وربّه، وهي الميثاق بين المسلم وخالقه جلّ وعلا، وهي العهد التي بين الله وبين عباده، وبالمحافظة على هذا العهد والميثاق يدخل المسلم الجنة آمناً مطمئناً، يقول رسول الله ﷺ: ” خَمسُ صَلَواتٍ كَتَبهنَّ اللهُ على العبادِ، فمن جاء بهنَّ لم يُضَيِّعْ منهنَّ شَيئًا استِخفافًا بحَقِّهنَّ، كان له عند الله عَهدٌ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، ومن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند اللهِ عَهدٌ؛ إن شاء عَذَّبه، وإن شاء أدخَلَه الجنَّةَ” سنن أبي داود.
ومن المحافظة على الصلاة وإقامتها: المبادرة بها في أول وقتها، وفي ذلك فضل عظيم، وهو دليل على محبة الله تعالى، وأما تأخيرها حتى يخرج وقتها فغير جائز وفيه إثم، وقد أخبر رسول الله ﷺ بفضل المشي إلى المساجد وحبس النفس في انتظار الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: ” إن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد، لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد، كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي – يعني عليه الملائكة – ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه ” متفق عليه.
فيجب على المسلم أن يتعلم أحكام صلاته بمعرفة أركانها ابتداءً بتكبيرة الإحرام وانتهاءً بالسلام، وأن يتردد على العلماء ليتعلم منهم أحكامها.
وأركان الصلاة ثلاثة أقسام:
- قلبي وهو: النية.
- وقولي وهو: تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده والسلام.
- وفعلي وهو: القيام والركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين، والجلوس في التشهد الأخير والطمأنينة والترتيب.
واعلموا أن المقصود الأعظم من الصلاة هو المداومة على ذكر الله ﷻ، يقول الله ﷻ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) طه: 14، فذكر الله تعالى هو الذي تنتظم به حياة المسلم الذي يبقى في معية الله تعالى حين يعرض نفسه على خالقها خمس مرات في اليوم والليلة، ثم ينعكس أثر هذه الصلاة على حياته، فتكون بذلك نوراً له في حياته كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ في قوله: “والصلاة نور” صحيح البخاري ولتكون الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما.
وإن من أهمّ أسرار الصلاة وفضائلها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. يقول الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) العنكبوت: 45.
قال ابن عباس: “فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا”. فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح، وباطن الصلاة حفظ القلب وهو محل نظر الله عزّ وجل.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يُقبل على الصلاة بإدراك أنه واقف بين يدي الله ﷻ. ولا يصلي كمن يقوم أمر اعتيادي. وثم يستذكر المصلي عظمة الوقوف بين يدي الله تعالى. وليحذر من مناجاة الله تعالى بقلب لاهٍ مسترسلٍ في أودية الغفلة والوساوس والأفكار الدنيوية، فإن روح جميع العبادات ومعناها إنما هو الحضور مع الله فيها.
كما يجب على المسلم المحافظة على حضور صلاة الجمعة وينبغي عليه حضور ما يستطيع من الجماعات فصلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وأن يحافظ على السنن الرواتب المشروعات قبل الصلاة وبعدها، وأن يواظب على صلاة الوتر والضحى، فإنها مما يزيد في الدرجات، ويجبر النقص الحاصل في صلاة الفريضة، قال رسول الله ﷺ: “إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح. وإن فسدت؛ فقد خاب وخسر. فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب ﷻ: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك” سنن أبي داود.
وقد كان آخر وصيةٍ من رسول الله ﷺ لأمته قبل انتقاله للرفيق الأعلى هي الوصية بالصلاة فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: “كانَ من آخِرِ وَصيَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وما مَلكَتْ أَيمانُكم حتى جَعلَ نبيُّ اللهِ ﷺ يُلجلِجُها في صدرِه، وما يَفيصُ بها لِسانُه” سنن ابن ماجه.
طالع أيضًا ⇐ خطبة عن أهمية الصلاة في حياة المسلم «مكتوبة»
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي فرض الصلاة رحمة بعباده، وجعلها نُسكًا يتقربون به إليه، ووسيلة ترفع عنهم الهموم والأحزان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهدي صاحبها إلى طاعة الرحمن، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خير من أقام الصلاة وأتمها وأحسنها بيانًا وتبيانًا، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أهل الطاعة والإحسان.
عباد الله، الصلاة عمود الدين، وقلب العابدين، وسر اتصال العبد برب العالمين، بها تصفو النفوس وتعلو الأرواح، وتتجلى بركات القلوب والجوارح. أركانها الثوابت هي قوامها، وأسرارها الروحانية هي نورها وبهاؤها، فمن أتمها بحقها، نال رضا الله وفاز بجنانه.
فاتقوا الله عباد الله، وأقيموا الصلاة على الوجه الذي يحب ربكم ويرضى، وكونوا على يقين أن الخشوع فيها هو جوهرها، والإخلاص أساس قبولها، فالله تعالى يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على من جاء بالهدى ودين الحق، سيدنا ونبينا محمد ﷺ، فقد أمركم الله بذلك فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.