قالت له وهو يستعد لمغادرة الشقة في الصباح: لا تنس أن تذهب إلى عملي وتقدم لي طلب الأجازة العارضة.
فأكد لها بهزة من رأسه أنه يذكر الأمر ولن ينساه، ثم حمل حقيبته الصغيرة ولمس خدها بيده لمسة خفيفة وغادر الشقة.
راقبته وهو يغلق الباب ويختفي وراءه ثم استدارت لتبدأ مهمتها التي تغيبت عن عملها اليوم من أجلها فرأت لفافة الساندوتش الذي أعدته له منسية على مائدة الطعام بجوار كوب الشاي الفارغ، فأسرعت بها إلى النافذة وانتظرت حتى رأته يخرج من باب البيت القديم وصاحت به: كمال!
فرفع رأسه متسائلا: فألقت اليه اللفافة في كيسها المصنوع من البلاستيك في حذر فتلقاها بين يديه باسما.. ولوح لها شاكرا ولوحت له باسمة.. ثم دخلت إلى غرفة نومها فبدلت قميص النوم بفستان قديم شبه ممزق.. ستقوم بتنفيض الشقة القديمة كلها ثم كنسها.. ومسح بلاطها الكابي..
وستغسل ملابس الأسرة الصغيرة كلها وحين تنتهي من كل ذلك ستبدأ في إعداد طعام الغداء.
وتوثبت لأداء مهمتها بحماس، فرفعت السجاجيد المتهالكة وكومتها فوق مائدة الطعام، ووضعت أكوام الغسيل في الغسالة.. ثم ادارت الراديو.. وحملت المكنسة وبدأت مهمتها بحماس..
وسط تراب الأرضية.. انبعث صوت عبد الحليم العذب يغني أغنيتها القديمة المحبوبة: أنا لك على طول.. خليك ليا.. فرقت لها مشاعرها.. وترطب بها وجدانها. لكن هل كانت تتصور ان تسفر الأحلام الوردية عن هذا الواقع الجاف؟
لقد عرفته وهما طالبان بالسنة الثالثة بالكلية، ولفت نظرها بأدبه وأمانة تصرفاته ورجولته، واهتمامه بأمرها. فتلقت رسائل نظراته الصامتة بترحيب، وفي الوقت المناسب تجرأ على مفاتحتها بحبه فوجد أرضها مهيأة وملبية لنداء الحب، وتعاهدا على أن يتشاركا رحلة الحياة ويكون كل منهما للآخر.. حتى النهاية. وبعد تخرجهما بأسابيع طلبت منه أن يتقدم لخطبتها ليعفيها من معاناتها مع أمها التي تلح عليها بقبول خطبة شاب من أقاربها يعمل تاجرا ومستعد بإمكانات الزواج، وبقوة الحب والخوف عليه من الضياع فاتح أباه الموظف السابق على المعاش الذي يعيش معه وحيدا بعد رحيل الأم وزواج الشقيقتين، وطلب منه مساندته في الدفاع عن حبه. وخلقت الوحدة التي جمعت بينهما صداقة عميقة. أعانت الأب على فهم مشاعر ابنه فقبل أن يتقدم لوالد فتاته برغم التحفظات.
شاب بلا عمل.. وبلا مسكن مستقل.. ولا مال موروث ولا أمل في تحسن أحواله خلال وقت قصير.. فكيف يتقدم باسمه طالبا يد فتاته؟
لكن نداء القلب طاغ.. وعاطفة الأب لا ترضي له بالخذلان، فصحب ابنه إلى بيت أبيها المدير العام وصارحه بكل الظروف وتحمل الحرج وهو يجيب عن اسئلة الأب المتتالية ب- لا.. لا عمل الآن لكنه سيعمل قريبا كما يعمل الشباب في مثل سنه.. لا شقة مستقلة لكن شقتنا واسعة وأنا رجل وحيد ولن يضيقا بوجودي في غرفتي.. واذا ضاقا بي فسوف أوزع اقامتي بين شقتهما.. وبين بيت الأسرة القديم في بلدتي،حيث تعيش شقيقتي الكبري،لامال لدينا،لكننا أسرة طيبة من أصل طيب والناس بأخلاقهم ودينهم وليس بمالهم. ولم يرفضه والد فتاته، لكن أمها كانت قاسية ولم ترحم شيخوخته وضعفه وانهالت عليه بالأسئلة المحرجة وتلقت إجاباته عنها بسخرية مقنعة لم يفطن لها الأب الشيخ وإنما تأذي منها إبنه. وخرج الاثنان من بيتها مهزومين. لكن الفتاة لم تسكت على الهزيمة.. وتصدت لأمها بحزم، صرخت في وجهها: ترفضين قريبك الثري.. لتتزوجي من شحاذ لا يملك شيئا بدعوي الحب، ان الحب سيقفز من النافذة بعد شهور من الزواج حين تحاصركما الديون.. وتعانين التقشف والحرمان.
لكن الفتاة لم تتنازل عن حبها، وشجعت فتاها على أن يمضي في طريقه وسعدت بكل خطوة حققها على طريق الحلم السعيد.. فلقد عمل بوظيفة حكومية وعملت بعده بشهور. وتنقل بين الأعمال الاضافية بعد الظهر حتى كان يعمل في بعض الأوقات من الصباح حتى منتصف الليل، ولا يراها إلا يوم الجمعة. وكلما تجمع في يده مبلغ صغير ادخره معها. واعطاه أبوه كل ما تبقي معه من مدخرات قليلة.. واقرضته شقيقتاه كل مدخراتهما.. مع منحة صغيرة.
وبما يشبه المعجزة استطاع ان يسد على أم فتاته كل الأبواب ويقدم لفتاته الشبكة والمهر.. ويجدد الشقة.. ولم يبق إلا تحديد موعد الزفاف.. ولا شيء يرضي الأم أو يخفف من امتعاضها فحتي صباح يوم عقد القران حاولت ان تغري ابنتها بالتراجع، ولوحت لها بما سيقدمه لها قريبها من حياة مريحة ومسكن لائق.. فأصمت الفتاة أذنيها عن فحيح أمها وتزوجا وأخلي لهما الأب العجوز الشقة وسافر إلى بلدته لعدة أسابيع ولم يعد حتى ذهبت إليه هي مع زوجها المحبوب يدعوانه للعودة إلى بيته.
ونعما بالحب والسعادة برغم جفاف الحياة، وبعد زواجهما بعام رحل الأب عن الحياة فبكته الزوجة الشابة كثيرا.. وذكرت له رفقه بها وعطفه عليها.
وأنجبا طفلهما الوحيد فزادت أعباء الحياة.. وتكاثرت سحب الهموم في السماء الصافية مع استمرارهما في سداد ديون الزواج، فحتي الشغالة غير المنتظمة التي كانت تقوم بتنظيف البيت مرة كل اسبوع لم تقو على الاستمرار في دفع أجرها.. وفضلت ان توفره لمطالب الطفل الوليد والحياة. وكلما استعدت لمعركة النظافة أودعت طفلها ليبيت ليلته لدي أمها وتحملت سهام كلماتها الناقدة بصبر واحتمال وفي بداية كل شهر تجلس إلى مائدة الطعام.. وتضع مرتبها على مرتب زوجها من عمله الصباحي والمسائي.. ثم تفتح كراسة البيت وتغرق في حسابات معقدة باذلة المستحيل لكي تفي نقودهما بالمطالب الضرورية وأقساط الديون.
وتقسم النقود إلى أكوم صغيرة.. ثم تعيد تقسيمها. وتعيد حساباتها.. ويبقي دائما مطلب ضروري لاسبيل إلى الوفاء به!
ويحاول زوجها التخفيف عنها بالتنازل عن أي مطلب شخصي له.. ويلح عليها، ألا تهمل مطالبها الشخصية.. فلا تسمع لرجائه..
وتقود سفينة حياتهما بحكمة قبطان لا يسمح لمشاعره بالتأثير على قراراته!
وكلما اصطدما بمطلب طارئ.. كمرض مفاجئ للطفل أو لها.. لجأ إلى شقيقتيه يقترض منهما. ولجأت هي إلى أبيها تطلب مساعدته فيساعدها سرا بغير أن تعلم أمها.
انتهت من كنس الشقة فحملت جردل الماء من الحمام وألقته على الأرض.. فساح الماء فيها.. وبهمة غريبة انحنت تمسح الأرض وتحاول جلاء بلاطها الكابي بفرشاه خشنة. ولو رأتها أمها في هذا الفستان الممزق لقالت لها بلهجتها الساخرة:
سلامات يا حب!
ولو رآها مديرها المتصابي الذي حاول المستحيل معها لإغرائها بالطلاق من زوجها ملوحا لها بالشقة الفاخرة في الحي الراقي.. والسيارة.. وشقة المصيف، لشمت فيها.. لكن هيهات أن تسعد النفس بالأشياء اذا لم تسعد أصلا بالإنسان، فحتي خلافاتها مع زوجها المحبوب خلافات حب تأنس بها حين تستعيدها في ذاكرتها.. غضب منها حين صرفت الشغالة وقامت هي بعملها واتهمها بأنها تشعره بالذنب تجاهها وخاصمها يوما طويلا اذا لم ترجع عن قرارها. فلم تدعه حتى بات ليلته راضيا ومتنازلا عن معارضته. ويغضب منها حين ترفض الذهاب معه إلى الطبيب ليعالج آلام ظهرها مفضلة توفير أجره، ومكتفية بالمسكنات ويتهمها بأنها تطعنه في رجولته وإحساسه بالمسئولية عنها ويخاصمها أو تخاصمه.. ثم لا تمضي ساعات حتى يتصافيا وقد تستجيب لإلحاحه راضية. وغضبت هي أيضا منه أكثر من مرة حين يضيق أحيانا بكلمات أمها المهينة له ويعلن العصيان ويرفض الاستجابة لدعوتها لتناول الغداء مع أسرتها يوم الجمعة. فيظل بها حتى ترضي.. وقد يذهب معها كارها ويتحمل ملاحظات أمها على فستان ابنتها الذي لم يتغير منذ شهور.. أو مقارناتها الجارحة بين حياتهما وحياة فلانة ابنة شقيقتها التي لا يقدم لها زوجها في المناسبات إلا الهدايا الذهبية.. ويستأجر لها شقة في المصيف ويقضي معها إجازة نصف السنة في أسوان، ويشترك في ناد راق تذهب إليه كل صباح.. ويعطيها مصروفا شخصيا سخيا لا يسألها كيف تنفقه.
فيمضي الزيارة مكتئبا.. ويعود معها إلى البيت ساهما.. ولا تفلح محاولاتها للتسرية عنه.. وقد ينفجر في وجهها ويعرض عليها الطلاق لتعيش الحياة التي ترضي عنها أمها.. ويتعكر صفو الحياة يومين أو ثلاثة. ثم تمضي سفينة الحب في اتجاهها متحدية الأمواج الطارئة.
أما أزمتهما الحقيقية فقد وقعت بعد خمس سنوات من الزواج حين طلب منها أن تستقيل من عملها وتتفرغ له ولطفلهما حتى تستريح أمها وتكف عن اتهامها له بأنه يسلبها مرتبها فلا يبقي لها منه ما تستطيع أن تشتري به حتى حذاء جديدا، تجهمت السماء تلك المرة بسحب ثقيلة لم يفلح نسيم الحب في تبديدها، وتمسك بموقفه وتمسكت بالرفض.. وهددها.. فقبلت التحدي وهددته، وعاد إلى الشقة في المساء فوجد الظلام يخيم عليها والشقة خالية من حبيبة القلب وطفلهما الجميل، فعرف أن طائر الخلاف قد حلق بعيدا في أجوائهما ورفض أن يذهب إلى بيت أسرتها ليعيدها إلى عشهما.. وباب ليلته حزينا مكتئبا. وغاب طائر الحب عن بيته أياما متوالية.. وتدخلت بينهما شقيقته الكبري وناصرت زوجته في موقفها وأكدت له أن فتاته أكثر واقعية منه وتري أن عملها لصالح أسرتها وطفلهما.
ومن حق الطفل عليهما أن يتنازل عن كبريائه واعتباراته الشخصية لصالحه، لكنه رفض برغم اقتناعه الداخلي بإخلاص دوافعها أن يذهب إلى بيت أسرتها لاسترضائها. وتواصلت الوساطات بينهما وأعلنت الزوجة المحبة أنها على استعداد لان تحصل من عملها على اجازة بدون مرتب وتتفرغ لبيتها لعام أو عامين لارضاء زوجها وبرغم أن جفاف حياتهما سيزداد قسوة، وصرخت أمها فيها محذرة.. وطالبت بإصرار بأن يتنازل زوجها عن مطلبه الخاص بالعمل نهائيا وأن يأتي راضخا لاستعادة زوجته، وإلا فليطلقها ويدعها لمستقبل أفضل مع غيره.. وتمادت في جبروتها فحددت له مهلة أسبوعين.. إن لم يأت لاسترضاء زوجته فسوف ترغمها على طلب الطلاق منه بالمحكمة!
مضت أيام المهلة ثقيلة حتى كادت تنفد.. وهي تنتظر أن يأتي إليها زوجها المحبوب.. وأمها نشوي بإحساس الانتصار وتؤكد لها كل يوم أنه لم يكن يستحقها.. وأنه لن يأتي لاستعادتها.
وراجع هو نفسه طويلا.. ثم قرر أن ينقذ الحب من الغرق في بحر العناد والكبرياء، فخرج من عمله المسائي إلى بيت شقيقته وطلب منها أن تذهب غدا إلى بيت اسرة زوجته وتعلنهم بأنه سيجيء لاسترداد زوجته وطفله على شرط واحد هو ألا تثير معه أمها الموضوع الجارح، وأن تكف عنه لسانها، ووعدته شقيقته بأن تفعل. وخرج من بيتها عائدا إلى مسكنه الخالي.. فأدار المفتاح في الباب ودخل مكتئبا فإذا بصيص من النور في الردهة الصغيرة، تعجب حين رآه وتأكد من أنه قد نسيه مضاء عند خروجه في الصباح.. وأضاء نور الصالة فرأي أطباقا مغطاة على المائدة.. رفعها فوجد طعام العشاء الذي اعتاد أن يجده في موضعه في الأيام السعيدة، فانتفض قلبه فرحا وجري إلى غرفة النوم فوجد زوجته الحبيبة ترقد في سلام وإلي جوارها طفلهما السعيد! فلم يتمالك نفسه وانحني على جبهتها يقبلها بحنان واستيقظت فنظرت اليه عاتبة.. ونظر إليها ممتنا وقال لها:
لماذا لم تنتظريني للغد.. لقد رتبت مع أختي أن آتي إليك غدا.
فأجابته باسمة: إنني أحسن منك وقلبي أرق من قلبك الحجري!
فحنى رأسه معترفا ومسلما وقبل يدها شاكرا.
لم تتكرر المحنة في حياتهما مرة أخري.. وتعلما منها ألا تتعدي خلافاتهما العابرة حدود شقتهما.. وتنازل عن مطلبه باستقالتها من عملها وسعد بها وتحمل من أجلها سهام أمها الجارحة وأصبحت لحظة العشاء التي تجمعهما في الليل.. هي واحتهما التي تذوب فيها كل المتاعب والمعاناة. واعتاد أن يسألها من حين لآخر: ألم تندمي على زواجك من زوج مكافح مثلي؟
فتجيبه باسمة: لا يندم على الحب إلا جاحد لا يستحقه!
وتواصلت الحياة بينهما رضية يسعدان بكل إنجاز صغير يحققانه فيها على طريق تخفيف الجفاف والمعاناة..
انتهت من مهمتها المرهقة الأخيرة ولمعت الشقة القديمة ببريق النظافة والذوق الجميل. فدخلت إلى الحمام واغتسلت.. وبدلت فستانها الممزق ببنطلون الجينز الذي تحتفظ به من أيام الجامعة وبلوزة برتقالية جميلة. وتأملت وجهها في المرآة قليلا وسرحت شعرها.. ثم نهضت إلى الثلاجة فأخرجت الطعام ورصت الأطباق على مائدة السفرة.
فسمعت صرير المفتاح في الباب.. ودخل زوجها يمسك بيده طفله الذي مر ببيت أسرتها ليعيده.. فأسرع اليها الطفل متهللا وحملته هي – وقبلته – وأعطت خدها لزوجها ليقبله قبلة العودة التقليدية وجلس الثلاثة إلى مائدة الطعام مبتهجين.. وزوجها يتلفت حوله معجبا برونق الشقة ونظافتها ويروي لها ما صادفه في يومه.. وهي تسمع باسمة وسعيدة ثم قطعت الحديث بسؤال طرأ لها: لم تقل لي هل انتهت زيارتك لماما بسلام وبغير تحية جديدة؟
فأجابها ضاحكا: وهل هذا معقول.. لقد اسمعتني بالطبع كلمة على الماشي عن حظ ابنة خالتك التي لديها شغالة تعطيها300 جنيه في الشهر.. في حين تتمرمط بنات الناس الأخريات في مسح البلاط مع الأزواج الفقريين وضحكت عاليا.. وشاركها الضحك بلا ضغينة، ثم قالت له: وماذا قلت لها؟
وأجابها: قلت لها: سعيدة يا حماتي.
ثم أمسكت بيد ابني وخرجت وصوت مصمصة شفاهها يلاحقني على السلم، وانفجر الاثنان في الضحك.. وشاركهما طفلهما الصغير ضحكهما بسعادة وبغير أن يفهم دواعيه أو أسبابه!
بقلم: عبدالوهاب مطاوع