إن الله -تبارك وتعالى- قد كرَّم الشهداء تكريما ليس كمثله تكريم، وشرَّفهُم تشريفا ليس بعده تشريف. فجعل لهم من الخصائِص والفضائِل ما الله به عليم. وسوف نسوق لكم هنا بيان منزلة الشهداء عند ربهم بما وَرَد في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة التي وصلتنا في السنة النبوية المُطهَّرة.
منزلة الشهداء في القرآن والسُّنَّة
ولا أدلَّ على ذلك من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا.. والذي نفس محمد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل». وهذا يدل على شرف الشهادة ومنزلتها في دين الله رب العالمين.
حتى إن الشهداء إذا أُدخِلوا جنة الله -تبارك وتعالى- وسكنوا المنازل، وكانوا في الدرجات العلا؛ يسألهم ربنا -سبحانه وتعالى- يقول للواحِد منهم -أي للشهيد-: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب، منزل من أفضل وأعظم المنازل. فيقول الله -عز وجل-: أي تمنى. فيقول: يا رب أتمنى أن أرجِع إلى الدنيا فأُقتَل في سبيلك ١٠ مرات. وهذا لِما لهم من المنزلة والمكانة والمقام عند الله -عز وجل-.
يقول ربنا -سبحانه وتعالى- في سورة الزمر ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء﴾. فقَرَن -سبحانه وتعالى- الشهداء مع الأنبياء. وهذا إن دلَّ فإنما يدل على عُلوّ شأنهم، وعلى ارتفاع مقامهم، وعلى قدرهم ومنزلتهم عند الله -عز وجل-.
وقال -تعالى- في سورة آل عمران ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾. وهذا أيضًا يدل على فضلهم وعلى محبة الله إياهم. لأن الاتخاذ لا يكون إلا لمصطفًا محبوب. فدلَّ هذا على محبَّة الله -عز وجل- لهم.
وقال -عز وجل- في سورة الحديد ﴿وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فدَلَّ هذا على عُلو المقام وعلى ارتفاع الشأن والمكان عِند ربنا -سبحانه وتعالى-.
الشهداء -عباد الله- لهم مقامٌ عظيم ولهم منزلة كبيرة عند الله -تبارك وتعالى-. حتى من قبل موتهم وهم في الحِراسة في سبيل ربهم -سبحانه وتعالى-، لهم فضلٌ عظيم ولهم ثوابٌ كبير.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث صحيح ورد في صحيح الترمذي «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».
وقال للصحابة الكِرام «ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوف، لعله أن لا يرجع إلى أهله».
والمرابط في سبيل الله دِفاعًا عن أرضِه ووطنه الإسلامي الذي تقام عليه شعائِر الإسلام، فيقول فيه رسول الله ﷺ «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها».
الشهيد وسكرات الموت
وأمَّا عِند قتله، فلا يشعر الشهيد بألم القتل، إلا كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي ورد في كتب الحديث؛ ومنها صحيح الترمذي والطبراني: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة». يعني شيءٌ هيِّنٌ يسيرٌ لا يُذْكَر. وهذا من فضل الله -تعالى- وكرمه عليهم.
وإذا ماتوا، فهُم أحياء عند ربهم يرزقون؛ وهل ما نِجده واضِحًا جليًّا في قول ربنا -تبارك وتعالى- في سورة البقرة ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾. وفي سورة آل عمران ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
فهُم أحياءٌ عِند الله -عز وجل- «أرواحهم في حواصلِ طيرٍ خضرٍ». «ترد أنهار الجنة؛ تأكل من ثمارها»؛ كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث.
الشهيد في القبر
وفي القبر يؤمَنون ويجارون من عذاب القبر. وذلك بنَصِّ حديث رسول الله -ونحن نؤمن ونعتقد أن كلام رسول الله حق وصِدق، وأنه ﷺ لا ينطق عن الهوى- في حديث شريف عن فضل الشهيد ومكانته؛ في صحيح الترمذي «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه».
أرأيت؟ «ويجار من عذاب القبر».. وما أدراكم ما عذاب القبر! سلوا الله -تعالى- النجاة من فتنة القبر ومن عذابه.
فيُجارون من عذاب القبر ولا يفتنون في قبورهم.
وقد وردت في كتب السُّنَّة أحاديث عن منازل الشهداء وما يلقونه من نعيم. وقد سُئِل النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ما بال الناس يفتنون في قبورهم إلا الشهداء؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة». فلا يُفتَنون في قبورِهم، ويجارون من عذاب القبر كما قال النبي -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
حال الشهيد يوم القيامة
وحينما يبعثون يوم العرض على الله -تبارك وتعالى- يقومون للعرض على الله والجِراحُ تنزِف دما؛ «كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله، يكون يوم القيامة كهيئتها، إذ طعنت، تفجر دما، اللون لون الدم، والعرف عرف المسك» كما ذكر لنا النبي -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
لأن العبد يُبعَث يوم القيامة على ما مات عليه. فهؤلاء قُتِلوا في سبيل الله، فيُبعثون يوم القيامة والجراح تنزف دمًا؛ اللون لونه، وأما الريح فريحٌ كريح المِسك، يشمها كل من كان في أرض المحشر واقفا. لدلالته على فضلهم وللإشادة بمنزلتهم ولعلوِّ قدرهم ومكانتهم عند ربهم -سبحانه وتعالى-.
يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين
والشهيد إذا مات غفر الله -تعالى- له ذنبه وخطاياه، إلا الدَّين. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ورد في صحيح مسلم «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين».
ولمَّا وَقَف يوما في الصحابة واعِظا ومُذَكِّرًا لهُم بفضل الجهاد في سبيل الله. قام رجلٌ فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله، يُكَفر الله عن خطاياي؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر» ثم قال له -صلى الله عليه وسلم- «إلا الدين، فإن جبريل -عليه السلام- قال لي ذلك».
فغفر الله -تعالى- له كل الذنوب والخطايا؛ إلا الدَّيْن.
ومن فضائل الشهداء أنهم يدخلون جنة الله رب العالمين، وكفى بهذا شرفا، وكفى بهذا فضلا. قال -تعالى- في سورة التوبة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾.
وفي الحديث الشريف «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض».
فيا لها من فضائِل ويا لها من من مكانة، ويا له من شرفٍ، ويا لها من منزلة أعدَّها الله -تعالى- للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله رب العالمين.
يا شهيد الوطن والأمن والواجب
الذي يقتل في سبيل الدفاع عن الوطن، لأنه وظنٌ إسلامي تقام عليه الشعائر، وتقام على أرضه الصلوات، وتُفْعَل على أرضه العبادات. الذي يدافع عن هذا الوطن لأنه وطنٌ إسلامي؛ يدفع عن أهله، ويُدافِع عن عِرضِه وشرفه، ويحفظ كرامته ويصون منزلته؛ فهذا في سبيل الله رب العالمين.
لما قال الرجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك». قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله». قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد». قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار».
وفي حديث النبي ﷺ الذي ورد في صحيح النسائي «من قاتل دون ماله، فقتل فهو شهيد، ومن قاتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله، فهو شهيد».
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يديم على بلادنا أمنها واستقرارها، وأن يحفظ شعبها.