نتحدث الآن عن آداب الطريق في ضوء الكتاب والسنة. فعندما يكون الإنسان سائرًا في الطريق بين الناس. هُنالِك آداب، تتعلق بالمشي وكيفيه مشي الإنسان في المجتمعات وبين الناس، هنالك آدابٌ تتعلق بالمجالسة والحوار. كيف ينبغي أن يجالس الإنسان أقرانه، أصحابه والناس جميعًا. وكيف ينبغي أن يكون الحوار، وما هي آداب الحوار التي يأمرنا القرآن أن نلتزم بها.
وهنالك آداب تتعلق بالبيوت، فإذا دخل الإنسان داره ما هي الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها تجاه أعضاء المنزل، الكبار مع الصغار، والصغار مع الكبار. ما يتعلق بتنقلاتهم في غرف الدار. أدق الآداب التي تتعلق بالمنزل وتتعلق بمعاملة أفراد الأسرة بعضهم لبعض، نقرأه في كتاب الله عز وجل.
ولا أظن أن بروتوكولات العالم كلها تحدثت بدقة عن هذه الآداب كما يتحدث عنها القرآن. وكل ذلك سنتحدث عنه قدر الاستطاعة إن شاء الله تعالى.
آداب الطريق في ضوء الكتاب والسنة
نقصد بآداب الطريق، “زيد” من الناس خرج من داره يمشي في المجتمع بين الناس، بالطبع يمشي في المجتمع فلابد أن يرى الناس ذاهبين وآيبين.
فلابد أن تكون هنالك علاقة ما بين الناس بعضهم مع بعض وهم سائرون في الشوارع وفي الطرقات وفي الساحات وفي الميادين.
هل هنالك آداب ينبغي التمسُّك بها؟ نعم. وأول هذه الآداب وأهمها:
التحية
من أهم ما قد شرعهُ القرآن وأمر به الناس جميعا. وبالطبع عندما نقول أمر به، إنما تتوجه أوامر القرآن إلى الذين آمنوا. أي الذين آمنوا بالله عز وجل.
والتحية التي يأمرنا بها بيانُ الله عز وجل، هي تحيَّةٌ خاصة علمنا ولقننا إياها، فما ينبغي أن نختلِقَ تحية من أنفسِنا. بل يأمرنا الله -تبارك وتعالى- بتبادل التحية ونحن في الطريق، ويُبصِّرنا الله عز وجل بالتحية المثلى.
هذه التحية المثلى نقرأها في آيات كثيرة، مثل قول الله عز وجل “وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ” ~ سورة الأنعام – الآية 54.
والباري سبحانه وتعالى كرَّر هذا الأمر في كثيرٍ من الآيات في كتابه المبين. “فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ” ~ سورة النور – الآية 61.
إذَا، فإن الله عز وجل يشرع التحية للإنسان وهو خارج منزله، يسير في الطرقات. ويأمرنا بأن تكون التحية التي نتبادلها مع الآخرين “السلام عليكم”.
فأنت عندما تخرج إلى الناس، أيًا كانوا، تقول له: السلام عليكم. ويقول لك: وعليك السلام.
ومعنى هذا أن المُجتمع أعلن بكل أفراده أن علاقة ما بين أفراد هذا المجتمع إنما هو السِّلم. وأن كل المبادئ والقيم التي يشرعها الله عز وجل، كل ذلك يصب في هذه الغاية. يصب في تحقيق مبدأ السِّلم الساري بين أفراد المجتمع.
أمَّا كلمة صباح الخير أو مساء الخير أو عموا صباحًا أو عِموا مساءً، فهي كلمة مجاملة لاشك، لكنها لا تنطوي على مبدأ، ولا تعبر عن شعارٍ ينطوي على مبدأ يأخذ هؤلاء الأفراد أنفسهم به بشكلٍ من الأشكال.
من القرآن الكريم
هناك آداب الطريق التي بصَّرنا بها كتاب الله عز وجل أثناء أداء هذه التحية.
أولاً، بداية التحية مسنونة وليست بواجبة. لكن الرد على هذه التحية يدخل في مستوى الواجبات، ولا يقف عند مستوى المندوبات أو السُّنن.
فالإنسان الذي يمشي في طريق إذا رأى الناس من حوله، أيًا كانوا وأيًا كان مذهبهم وديانتهم، يُسن له أن يقول: السلام عليكم. فهذا أمرٌ مسنون ومندوبٌ. فإذا سمع هؤلاء الناس السلام الذي توجه من فلان إليهم، توجَّب عليهم الرد. وذلك لأن الله عز وجل عز وجل يقول “وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا” ~ سورة النساء – الآية 86.
ولاحظ، الأمر توجهه إلى الناس برد التحية، والأمر يدل على الوجوب. لكنه لم يوجه الأمر الدال على الوجوب على البادئ. فعلِمنا إن البدء مسنون، أما الرد على التحية فواجب بنص كتاب الله سبحانه وتعالى.
ويعني “فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا” أي إذا مرّ بي إنسان وقال لي: السلام عليك. ينبغي أن أقول له: وعليكم السلام ورحمةُ الله. وإذا قال لي: السلام عليكم ورحمه الله. ينبغي أن أقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لكنه -تعالى- قال “أَوْ رُدُّوهَا” وهذا يعني أن الإنسان إذا رد التحية بمثلها حسنٌ ولا إشكال فيه، ويكون قد رفع الواجب عن كاهله.
التحية والسلام لغير المُسلِم
والسلام ينبغي أن يكون متبادلًا بين الناس في الطريق. أيًا كان المُسلِّم وأيًا كان المُسلَّمُ عليه. فهذا من الآداب المرعية التي ينبغي أن نعلمها.
يقول ابن عباس -رحمه الله تعالى ورضي الله عنه- “من سلم عليك من خلق الله فاردُد عليه، وإن كان مجوسيًا” وذلك لعمومٍ دلالة الآية، ويضرب المثل أيضًا، فأيًا كان، إذا سلم عليك ينبغي أن ترد عليه السلام.
وهنا، ربما قال قائل، يوجد في الصحيحين حديثٌ يخالف ذلك. يقول العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي: هو موجود فعلا في الصحيحين لكن الناس لا يفهمون معنى هذا الحديث.
حيثُ يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم “إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ”.
فهذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهره يدل على أن الصحابة ما كانوا يلتزمون برد السلام على اليهود بتعليمات منصوص عليها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولكن الأمر بواقعة حالة. فأولئك اليهود الذين كانوا في المدينة المنورة كانوا أشد الناس حقدًا على رسول الله وعلى المسلمين. فإذا رأى الواحد منهم مُسلمًا يقول: السام عليكم -أي من السُّم-. وبالطبع في هذه الحالة يكون الرَّج “وعليكم”.
لكن كل شيء خاصٌ في ذلك الوقت، فهل ينطبق هذا الحكم على المجتمعات كلها. بالتأكيد لا.
وفي هذا العصر بالذات ينبغي أن نقف أمام هذا الذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسْتبين معنى وصيته ومعنى اهتمامه بإفشاء السلام.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم في صحيحه “والَّذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا أولا أدلُّكم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحاببتُم أفشوا السَّلامَ بينَكم”.
فإذا خرجت من بيتك ودخلت في سوق، شوارع، بين الغادين والرائحين، سلِّم على كل من تراه، عرفته أم لم تعرفه. قُل له: السلام عليكم.
المشي الهوينا
وهنالك آداب أخرى من آداب الطريق أيضًا، ومنها: المشي الهوينا. هكذا يعلمنا كتاب الله. يعني إذا خرجت من دارك وأخذت تسير بين الناس، فإياك أن تجعل من مشيك تعبيرُا عن كبرياء، زهوّ، تسامي على الآخرين.
هذه المشية يبغضها الله عز وجل. فامش الهوينا، تمشي مشيةً طبيعية. كما قال الله سبحانه وتعالى “وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ” ~ سورة لقمان – الآية 19. أي اجعل مشيك لا يتضمنُ تباهيًا، استكبارًا. ولا يتضمَّنُ مهانةً أو ذُلا.
إنما هو المشي الطبيعي الذي يعبر عن إنسانية الإنسان السامية التي لا تهون ولا تستكبر.
واقرأ قول الله تعالى “وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا” ~ سورة الإسراء – الآية 37.
تأملوا في هذا الأدب العجيب، فالمرح هو الزهُو، حالة من الفرح تطوفُ بالرأس فتجعل صاحبها مُستكبرًا، يُزهى بنفسه ويرفع رأسه عاليًا، ينظر إلى الآخرين نظرة تباهي وازدراء.
لكن في الوقت ذاته قد تجد الإنسان يُطأطئ رأسه، وهذا خطأ أيضًا. فامش المشي الهوينا الذي يعبر عن إنسانيتك المكرم عند الله والذي يبتعد الاستكبار.
وقد رأى عمر بن الخطاب في المسجد إنسانا هكذا، فضربه بالعصا التي معه وقال “لا تمت علينا ديننا”.
فهذا المظهر ليس مظهرًا فطريًا. فالباري سبحانه وتعالى يوصي الإنسان عندما يمشي في الطريق بألا يؤذي إخوانه بهذا الاستكبار، لأن فيه إيذاءً لهم.
غض الطرف
أدب آخر من الأهمية بمكان، وهو غض الطرف. وهناك فرق بين غض البصر وإغماض العين.
فإغماض العين هو أن يُغمض الإنسان عينه ويغلقها تماماً، وهذا ليس المقصود في الإسلام.
وإنما هو غض الطرف، ومعناه ألا يُحدق الإنسان يمينا وشمالا، ينبش بعينيه أسرار الناس من هنا وهنا. فهذا شيءٌ ينهى عنه بيان الله عز وجل.
فهو أدب من آداب الطريق التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان. فليستعمل كلٌّ منا بصره بالقدر الذي يحتاج إليه في السير في الطريق.
فليس المراد ما بخصوص ما بين الرجل للمرأة فقط كما يظن البعض. لكن، غض الطرف حتى لو كان الإنسان يمشي في طريقٍ ليس فيه إلا الرجال، فغض الطرف مطلوب وقتها أيضًا.
والمرأة التي تمشي في طريقٍ ليس فيه إلا النساء، غض الطرف مطلوب أيضًا. فغض الطرف أدب من آداب الطريق التي تليق بالإنسان. عبارة عن حالة إنسانية سامية حضارية.
تأمَّل حديث النبي ﷺ في السنة النبوية المُشرَّفة، لبعض الصحابة لما رآهم يجلسون في الطُّرقات، قال “إياكم والجلوس في الطرقات” فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بُدٌّ من مجالسنا. فقال “أما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقَّه”. فقالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال “غَضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر”.
وبعد أن يُحقِّق كُلٌّ ما هو مطلوب منه، حينها سيكون المجتمع متوجًا بالأخلاق الإنسانية الجميلة.