لطالما ارتبطت الحرباء في أذهاننا، منذ الطفولة، بقدرتها العجيبة على تغيير لونها لتتماهى مع ما حولها. فكنا نعتقد أن الحرباء، ما إن توضع على صخرة صفراء، حتى يتحول لونها إلى الأصفر، وإذا وُضعت بين الأشجار، سرعان ما يتغير لونها إلى الأخضر، وإن وضعت على قطعة قماش حمراء أصبحت حمراء في لمح البصر، وكأنها تمتص ألوان الأشياء التي تلامسها بقدميها بطريقة سحرية. لكن… هل هذا الاعتقاد صحيح حقاً؟
حقيقة تغيّر لون الحرباء
في الواقع، الحرباء لا تكتسب لون البيئة المحيطة بها كما كنا نظن. فقد تقف على غصن شجرة أخضر، ثم تغير لونها فجأة إلى الأحمر، ثم الأزرق، وربما إلى الأصفر، دون أن يتغير الوسط من حولها. فعملية تغير اللون لا علاقة مباشرة لها بالمكان الذي تقف عليه الحرباء، ولا تتأثر بالألوان المحيطة كما كان شائعاً.
الحرباء تتحكم في لون جلدها بشكل كامل وبإرادتها الحرة، دون أن يُفرض عليها لون معين، وبالتالي، إن وضعت على قطعة قماش حمراء، ليس بالضرورة أن تتحول إلى اللون الأحمر. بل إن الحرباء، وبحركة عيونها الدائرية، قد تنظر إليك وكأنها تسخر من محاولتك الساذجة لاختبارها!
لماذا تغيّر الحرباء لونها؟
عندما يُطرح هذا السؤال، غالباً ما تكون الإجابة المتوقعة أن الحرباء تغيّر لونها لأغراض التمويه والتخفي، سواء لحماية نفسها من المفترسات، أو للانقضاض على فريسة ما. ورغم أن التمويه بالفعل فائدة جانبية مهمة لتغيير اللون، إلا أنه ليس السبب الرئيسي على الإطلاق.
أيضًا؛ هل تعلّم ⇐ لماذا نسمع صوت صفير عندما يكون المكان هادئًا؟
التعبير عن المشاعر
السبب الأكثر أهمية لتغير لون الحرباء هو التعبير عن حالاتها المزاجية ومشاعرها، حيث تُعتبر الألوان لغة تواصل لدى هذه الكائنات الغريبة. فعلى سبيل المثال:
- اللون الأخضر: يدل على الهدوء والاسترخاء.
- اللون الأصفر: يشير إلى الشعور بالخوف أو التوتر.
- الألوان الداكنة كالأسود: تظهر في حالات الغضب أو التهديد.
- اللون الرملي مع بقع صفراء: يظهر في الظلام.
- اللون الأزرق: يرتبط غالباً بالنوم العميق.
الجذب الجنسي والتكاثر
من أهم الأسباب التي تدفع الحرباء، خاصة الذكور منها، إلى تغيير ألوانها، هو جذب الإناث خلال موسم التزاوج. فعندما يرتفع مستوى هرمون التستوستيرون في جسم الذكر، يبدأ في التلون بألوان زاهية كالأحمر والبرتقالي والأصفر ليعبر عن جاهزيته ورغبته، ويثير اهتمام الإناث.
وفي حال حدوث منافسة بين ذكرين، يقوم كل منهما بعرض ألوانه في محاولة للسيطرة، وغالباً ما يتحول لون الذكر المهزوم إلى لون داكن كالبني أو الرمادي، تعبيراً عن الاستسلام، بينما يواصل المنتصر استعراض ألوانه الفاتحة كأنما يعلن انتصاره في مهرجان ضوئي!
ومن اللافت أن القدرة على تغيير اللون موجودة لدى الذكور فقط، أما الإناث، فغالباً ما تكون محدودة للغاية في هذا الصدد، وذلك لأن الذكور هم من يسعون لجذب الإناث وليس العكس.
التكيف مع الطقس
بالإضافة إلى التواصل والجذب، تستخدم الحرباء تغير اللون كوسيلة لتنظيم حرارة أجسامها. ففي الطقس البارد، قد تتحول إلى ألوان داكنة لامتصاص الحرارة، بينما في الطقس الحار، تغير لونها إلى درجات فاتحة تعكس الشمس، مما يحافظ على برودة جسمها.
وتختلف ألوان الحرباء بحسب بيئتها؛ فالحرباء التي تعيش في الغابات المطيرة مثل مدغشقر تظهر غالباً بلون أزرق ساطع، في حين أن نظيراتها في الصحارى تميل إلى اللون الرمادي الفاتح لتقليل امتصاص حرارة الشمس.
ومن الطرائف أن الحرباء أحياناً تقوم بتلوين نصف جسمها بلون، والنصف الآخر بلون مختلف، حسب اتجاه أشعة الشمس والظل، حتى تُدفئ جانباً وتُبرد الآخر!
كيف تتم عملية تغيير اللون علمياً؟
في الماضي، كان الاعتقاد العلمي السائد أن جلد الحرباء يحتوي على خلايا صبغية فقط: خلايا للون الأحمر، وأخرى للأصفر، وثالثة لصبغة الميلانين الداكنة. وكان يُظن أن مزج هذه الصبغات يعطي باقي الألوان، إلا أن هذا التفسير كان غير كافٍ، لأنه لا يفسر ظهور ألوان مثل الأخضر، الأزرق، أو الأرجواني.
لكن الأبحاث الحديثة كشفت أن التفسير الحقيقي أعقد وأروع بكثير!
الطبقات البلورية داخل جلد الحرباء
يتكون جلد الحرباء من عدة طبقات، في الطبقة العلوية توجد الخلايا الصبغية، أما في الطبقات السفلى، فتوجد خلايا تحتوي على بلورات نانوية متناهية الصغر، مرتبة بدقة شديدة. هذه البلورات لها خاصية انعكاس الضوء بشكل انتقائي.
فعندما يسقط الضوء على هذه البلورات، تُبعثر موجاته، وتنعكس أطوال موجية معينة حسب المسافات بين البلورات:
- إذا كانت المسافات بين البلورات ضيقة، فإنها تعكس الضوء الأزرق (قصير الموجة).
- وإذا كانت المسافات متسعة، تعكس الضوء الأحمر (طويل الموجة).
- وما بين هذين النقيضين، تتشكل باقي الألوان بحسب التغير في المسافات.
مزج الضوء مع الصبغات
لإنتاج لون مثل الأخضر، تقوم الحرباء بتقريب البلورات لتنعكس فقط الموجات الزرقاء، ثم يصعد هذا الضوء الأزرق إلى الطبقة العليا من الجلد، حيث توجد خلايا صبغية صفراء، وعند امتزاج اللونين، يظهر لنا اللون الأخضر.
وهكذا، يمكن للحرباء إنتاج طيف واسع من الألوان ليس فقط عن طريق الصبغات، بل من خلال التلاعب الفعّال بالبنية النانوية داخل جلدها.
تجربة بسيطة لإثبات النظرية
إذا ضغطت بإصبعك على جلد حرباء متلونة باللون الأخضر، ستلاحظ أن اللون في موضع الضغط يتحول إلى الأزرق، لأن الضغط يُقلّص المسافات بين البلورات، مما يجعلها تعكس الضوء الأزرق فقط. وبمجرد رفع الإصبع، تعود المسافات إلى وضعها الطبيعي ويعود اللون إلى الأخضر.
هل تعلَم أيضًا ⇐ كيف يحدد الطيارون مسارهم في السماء رغم أنها تبدو متشابهة؟
خلاصة القول
الحرباء لا تغيّر لونها للتخفي فحسب، بل تفعل ذلك لأسباب أكثر تعقيداً ودهشة: التعبير عن مشاعرها، التكيف مع البيئة، التواصل مع الآخرين، وخاصة جذب الشريك. ويكمن السر وراء هذه القدرة المذهلة ليس فقط في الصبغات، بل في البنية الدقيقة لبشرتها، التي تسمح لها بتطويع الضوء نفسه لصالحها.
فالحرباء لا تذوب في الخلفية… بل تسرق الأضواء ببراعة فنية خارقة.