حِينَمَا أردنا تبيان فضل آخر آيتين من سورة البقرة بما وَرَدَ إلينا من سُنَّة النبي ﷺ، كان علينا أن نوضِّح أولاً الآية التي تسبقهما، تِلك التي خاف منها الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- حتى جاءهم الفرج من الله -جل جلاله-. هذه الآية يقول فيها الحَقّ -جل وعلا- ﴿لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
آية عظيمة اهتزت لها قلوب الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
واعلم أخي المسلم أنَّ الخطرات والوساوس لا ينجو منها أحد. فالشيطان يقذِف في جوف وقلب أحدنا من الوساوس الكفرية والشركية، ومن محبَّة المعاصي ما يخشاه المؤمن التَّقِي. فكيف يحاسبنا الله -جل جلاله- على ذلك؟ وليس ذلك باختيارنا وليس في قدرتنا ولا طاقتنا!
سبب نزول آخر آيتين من سورة البقرة
جثى الصحابة -رضي الله عنهم- على ركبهم عند النبي ﷺ، وقالوا: يا رسول الله، إن كان الله سيحاسبنا على ذلك هلكنا!
عند ذلك علَّمهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا: سمعنا وأطعنا. فقال لهم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير».
عند ذلك أنزل الله -جل جلاله- هاتين الآيتين في خواتيم سورة البقرة جزاءً لأولئك الصحابة الذين خافوا الله -جل جلاله- لكنهم امتثلوا أمره.
كافأهم الله -جل جلاله- بهذه المكافأة؛ آيتين عظيمتين. فُتِح باب من السماء لأول مرة. نزل ملكٌ بهاتين الآيتين على رسول الله ﷺ.
أواخر سورة البقرة مكتوبة بالتشكيل
وهنا تقرأ الآية ٢٨٥ و ٢٨٦ من سورة البقرة مكتوبة وبالتسكيل ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ | لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
وهنا تستمعون لقراءة مباركة لآخر آيتين من سورة البقرة بصوت الشيخ ماهر المعيقلي:
فضل آخر آيتين من سورة البقرة
وهذا ما ورد إلينا في صحيح مسلم من حديث عن فضل آخر آيتين من سورة البقرة يرويه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-؛ فيقول: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: «هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم» فنزل منه ملك، فقال: «هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم» فسلم، وقال: «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته».
وهو -عليه أْفضل الصلاة وأزكى السلام- الذي يقول في فضل قراءة آخر آيتين من سورة البقرة قبل النوم «الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه».
وروي في كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع، وفي الحديث لابن عبدالوهاب؛ عن ابن عمرو أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها.
وهذا حديثٌ صحيح يقول فيه النبي -صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها- «أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يؤتهن نبي قبلي».
ولا زِلنا مع ما ورد من فضائل خواتيم سورة البقرة؛ حيث يقول الإمام علي -رضي الله عنه-: ما كنت أرى أحدا يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الثلاث الأواخر من سورة البقرة.
ومن الأحاديث العظيمة التي يُمكِن أن نُدرك من خلالها فضل هاتين الآتين الكريمتين، ما ورد في صحيح الترمذي، أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».
وقفات مع آخر آيتين من سورة البقرة
ما أرحم الله بعباده، ما ألطَف الله بعباده، ما أرأف الله بعباده! لما علِم منهم الصدق نجَّاهم، وجاءهم الفرج، وخفت الله عنهم وعن المسلمين. لأن الله -تعالى- يقول ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾.
جاء ناس من أصحاب النبي -صلّى اللهم عليه أفضل صلاة وأتمَّها-، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به [يعني من وساوِس الشيطان] قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان».
نعم؛ فماذا تصنع الشياطين بالقلب الخرِب؟ بل إنه يأتي للقلب المملوء بالإيمان، ليوسوس وليُلقي شبهاته وتلبيساته، وليسأل أسئلة الكافر المجاحِد، أسئلة الكافر الذي يستكبِر على ربه -جل وعلا-.
وفي حديث يأتينا في صحيح البخاري ومسلم، يقول -صلى الله عليه وسلم- «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته».
حينها حريٌ بالمؤمن أن يستغفر الله -جل جلاله- ويدعوه، ويقرأ المعوذات.
آمن الرسول بما أُنزِل
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أي الرسول آمن، والمؤمنون آمنوا كذلك بما آمنبه الرسول.
آمنوا بالله، آمنوا بالملائكة، آمنوا بالكتب، آمنوا بجميع الرُّسل. فنُحِب موسى، ونحب عيسى، نحب آدم، نحب إبراهيم؛ نحب أنبياء الله ورسله -عليهم صلاة الله وسلامه-؛ كما نحب رسولنا -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وما نقرأه في بداية الآية الأخيرة من سورة البقرة، في قوله -تبارك وتعالى ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾. فحريٌ بنا أن نقول الحمد لله على رفع الحرج، والحمد لله على رحمته بنا.
ولذلك استفاد العلماء من ذلك، أنه لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة. فإن الإنسان إذا لم يستطيع أن يقوم في صلاته فإنه يجلس، وإذا لم يستطع أن يصوم رمضان لكبره أو مرضِه يفطر ويقضي إن استطاع بعد ذلك.. وخذ من رفع الحرج في الشريعة أمثلة كثيرة.
فالحمد لله على نعمته، والحمد لله على رفع الحرج عن هذه الأُمَّة.
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
نعم، ما كسبت من الخير يؤتيك الله أجره، وما اكتسبت عليك من الله وِزره -والعياذ بالله-.
وهذا أيضًا ما نجِده في الآيات من سورة الزلزلة، إذا يقول الحق -تبارك وتعالى- في آخر آيتين من السورة ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ | وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا
فالله لا يؤاخِذنا على الخطأ. إذا أخطأ الإنسان أو إذا نَسي أو إذا استُكرِه على شيء؛ فإن الله لا يؤاخذه، ويرفع عنه الإثم.
وليس المعنى في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» أنَّ الخطأ غير موجود. لا، الخطأ والنسيان والإكراه موجود، لكن الإثم غير موجود، يرفعه الله.
فإذا أخطأ الإنسان وما كان متعمدا، كأن كان يقود سيارة فصدم رجلا مسلمًا غير متعمدا، فإن عليه الدية والكفارة ولا إثم عليه.
وإذا أكل أو شرِب المسلم في نهار رمضان ناسيًا، فلا إثم عليه ويستمر في صيامه.
فالله أكبر؛ ما أعظم هاتين الآيتين في أواخر سورة البقرة. لذلك كان علينا أن نحرِص أيها الإخوة حِفظًا وعملا. نقرائهما عِند النوم، حتى لو كان الإنسان على غير وضوء، فإنها من أذكار النوم؛ تُقال دون وضوءٍ ولا حرج في ذلك -إن شاء الله-.